حرصت حرصت جميع القوانين والدساتير الدولية الوضعية على الفصل بين القضاء والأجهزة التنفيذية والمجالس التشريعية، بمعنى الفصل بين المحاكم والحكومات والبرلمانات، وبتقريب أكثر، الفصل التام بين القضاء والسياسة، باعتبار أن القضاء هو الأداة التي تحقق العدل وتنصف المتقاضين، أما السياسة والتي يدخل تحت بنودها الحكومات والبرلمانات وحل القضايا والأزمات الدولية فإنها مجال واسع يمكن من خلالها الالتفاف وحتى التحايل على القضايا، فكم من قضية عادلة خسرها أصحابها الشرعيون لتسلط القوى الدولية التي تمتلك القوة والنفوذ، ولهذا فإن التشبث بالفصل بين القضاء والسياسة، بإبعاد السياسيين عن المحاكم وإبعاد أي شبهات سياسية عن أي إجراء قضائي، يُعد مطلباً شرعياً يتشبث به الجميع وتلتزم به جميع المنظمات والهيئات وخاصة ذات الارتباط بالشأن القضائي.
لهذه الأسباب، ولأسباب أخرى تظهر تحيز الإدعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية، استغربت الدوائر القضائية الدولية، واستنكرت إصدار مدعي عام المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير بحجة أعطائه الأوامر لوزرائه وقادة الجيش السوداني بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
وهنا، لا نناقش خللاً قانونياً يتمثل بعدم ولاية المحكمة الجنائية، إذ لا يحق لها مقاضاة أي فرد سوداني، وليس أعلى سلطة فيه، كون السودان ليس موقعاً على اتفاقية روما الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وقد تجنبت نفس المحكمة الجنائية الدولية التورط مع دول أخرى غير موقعة على اتفاقية روما، كالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فالأولى وحسب مقاييس المحكمة الجنائية الدولية ارتكب رئيسها مخالفات أكثر مما يتهم به البشير، فالرئيس بوش أعطى أوامره لجيوشه في العراق وأفغانستان وتسبب في قتل مئات الآلاف في البلدين، كما أن رؤساء الحكومات الإسرائيلية وجهوا وأعطوا الأوامر بإبادة مئات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين، فأين المحكمة الجنائية الدولية عن جرائمهم المستمرة حتى اليوم؟!
هذا الكيل بمكيالين والذي اعتاد عليه العرب والمسلمون من الهيئات والمنظمات الدولية بعد هيمنة القطب الأوحد، ما كنا نتوقع أن ترتكبه هيئة قضائية دولية، كالمحكمة الجنائية الدولية التي من أولى مهامها الحرص على تطبيق العدل على الجميع، أما اختيار الدول التي يعدونها دولاً ضعيفة مطبقين المثل الذي يقول: (استضعفوك فأكلوك)..!! فإنهم يكونون قد أخطؤوا في حساباتهم، فالسودان ليس وحيداً في هذه القضية ولن يكون ضعيفاً، فجميع الدول العربية والإسلامية والأفريقية مع شعب السودان وحكومته ورئيسه الذي يعد رمزاً لدولة عضو في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأفريقي، وهي منظمات إقليمية دولية استنكرت تصرف مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الذي ورط القضاء في أحابيل السياسة.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«9999» ثم أرسلها إلى الكود 82244