في كلمته في مؤتمر مدريد لحوار الأديان، قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز: (ونحن نجتمع اليوم لنؤكد أن الأديان التي أرادها الله لإسعاد البشر يجب أن تكون وسيلة لسعادتهم. لذلك علينا أن نعلن للعالم أن الاختلاف لا ينبغي أن يؤدي إلى النزاع والصراع، ونقول: إن المآسي التي مرت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، ولكن بسبب التطرف الذي ابتلي به بعض اتباع كل دين سماوي، وكل عقيدة سياسية).
وقال -أيضاً- في سياق الكلمة نفسها: (حوارنا مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب، والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية).
بهذه الكلمة الرائعة بالفعل، والتي تحمل في مضامينها وإشاراتها لغة جديدة راقية، تواكب دور المملكة الريادي الجديد في إرساء الحوار والتفاهم بين العالم، ونشر القيم الإنسانية، وتلمس العوامل المشتركة بين الأديان لتكون قاعدة يتم على أساسها العمل المشترك لما فيه خير الإنسانية جمعاء، افتتح - خادم الحرمين- مؤتمر مدريد وكما قال -حفظه الله- لا يمكن أن تكون الأديان وسيلة نزاع وصراع بين بني البشر، كما يحاول أن يأخذها المتطرفون، الذين لا ينظرون إلى العالم إلا من خلال نظرة أحادية ضيقة، لا ترى واقعها بقدر ما ترى ماضيها؛ لا تعرف التسامح، ولا يهمها (البتة) رأي الآخر فيها. هذه العقليات هي ما يسعى مؤتمر مدريد أن يطوقها بالحوار؛ وإذا لم يكن بالإمكان (اجتثاثها) جذرياً من العالم المتحضر، فعلى الأقل تهميشها وتحييدها عن التأثير في صناعة القرارات العالمية، التي تسعى إلى نشر المحبة والسلام والأمن بين البشر.
التسامح هو أس البقاء، والتطرف هو عامل الفناء. عرف التاريخ كثيرا من الأديان والطوائف والتوجهات الدينية، فيها المتطرف وفيها المرن المتسامح، بقي المتسامحون، وخرج من التاريخ المتطرفون. وعندما يظن بعض السذج من متطرفي الأديان أن التطرف هو النقاء، وأن إلغاء الآخر الذي تختلف معه هو (الطهارة)، وأن التعامل مع المخالف لا يتم إلا بالقوة والسيف، لا بالجدل والحكمة والموعظة الحسنة، فهم بذلك يبذرون الصراع الذي سيقود العالم إلى مزيد من الكراهية والبغضاء وربما الدم والقتيل والتفجير.
وثقافة التسامح التي يحاول أن يكرسها مؤتمر مدريد بين أتباع الأديان، تستطيع أن تلمحها في صيغ ومعادلات مختلفة. فهناك -مثلاً- قبول الآخر في مقابل النفور منه؛ والانفتاح في مقابل الانغلاق؛ والاندماج في مقابل الانعزال؛ والحب في مقابل البغضاء؛ والتسامح في مقابل التعصب.
فأي من هذه المتضادات -بشقها السلبي- عندما تسيطر على بنية تفكير الإنسان، وتوجه تصرفاته، يصبح بالضرورة متشدداً، أو على الأقل داعماً لثقافة الإرهاب، وربما أنه لا يعلم. والذي يجب ملاحظته - بالمناسبة- أن الإنسان ذو العقلية المتطرفة يجد نفسه أكثر اتساقاً مع ما يرى أنه (الحقيقة)، وفي المقابل يرى غيره -أي (المتسامح)- مفرطاً، ليناً، يتنازل عن الحق؛ وليس أدل على ذلك من نظرية ابن لادن الشهيرة حول الفسطاطين!
وبالنسبة لنا نحن السعوديون، فإن مؤتمر مدريد يعني بوضوح أن حقبة التشدد التي كنا وكان الأمن والاستقرار ضحية من ضحاياها، يؤول نجمها (الآن) للأفول. وأن (التسامح) الذي يكرسه الملك عبدالله عنواناً لعهده الميمون هو سمة العصر؛ وأن قيم التسامح في مقابل قيم التعصب هي قيم الحكم في المملكة.