جُبل الإنسان على طبائع طيبة وأخلاق فاضلة وصفات حميدة هي خيرٌ له في الدارين ويتصف الإنسان بأوصاف سلبية وصفات ذميمة أُمر بالتخلص منها والحذر من الاتصاف بها.
وتلك الصفات تمايز بين الناس، وتفرق بين شخصياتهم وقد تظهر تلك الصفات في المجتمع فتكون خطراً على الجميع ومصدر إيذاء للناس جميعاً.
ومن تلك الصفات المقيتة التي يعايشها الناس الفوضوية في حياتهم مما يجعل الحياة أكثر تعقيداً فتضيع الأوقات والجهود والأموال بسببها، فيجد الإنسان نفسه أنه يشتري ما لا ينتفع به ويعمل عملاً لا يعود عليه بالنفع، ويضيع أوقاتاً في أعمال لا فائدة فيها.
وقد تكون هذه الفوضوية طبيعة متوارثة، وقد تكون صفة مكتسبة, ولو تأملنا دين الإسلام لعلمنا أن ديننا أقيم على النظام والترتيب والتنظيم.
فالصلاة في أوقاتها نظام ينظم يوم المسلم في الليل والنهار {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} واكتمال الصفوف وتراصها وتسويتها في الصلاة نظام بديع يجعل من المسلم منظماً في حياته قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول ويتراصون في الصف...) قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}.
والصيام في وقت واحد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ينتظمون بالصيام عند طلوع الفجر وعند سماع المؤذن إلى غروب الشمس. والزكاة منظمة في وقتها ونصابها وأهلها. والحج رحلة منظمة في أماكن محدودة لتعطي للإنسان ترتيباً لحياته وفق نظام دقيق.
وكان عليه الصلاة والسلام يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها تنظيماً للوقت فالنوم له وقت والاستيقاظ له وقت {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
وإن خلق هذا الكون بهذا الانتظام البديع ليوحي للمسلم أهمية النظام فجميع ما في الكون قد قدره الله وقضاه {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقال تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}. بل لو فكر الإنسان في خلق نفسه {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، لوجد ذلك الجسم بجميع أعضائه ينتظم بنظام عظيم دقيق فسبحان الذي خلق فسوى.
وإن نظام المسلم مع إخوانه قد جاء الإسلام بأنظمة تحدد التعامل بين الناس فالاستئذان ثلاث وإن أذن لك وإلا فارجع، قال صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع... الحديث) وشرع الاستئذان عند دخول البيت ويستأذن الرجل على أمه وزوجته وبنته وشَرع للإنسان أوقات خاصة به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}.
ومن ذلك النظام البديع في الإسلام تحريم ما يضر ويفسد، وإباحة ما ينفع ويصلح.
فنهى الإسلام عن التبرج والسفور والاختلاط والخلوة الأجنبية تنظيماً لحياة المرأة والأسرة وحفظاً لشخصية المرأة.
وحرم الإسلام المسكرات والمخدرات والخمور حفاظاً على العقول وتمييزاً وتكريماً للعقل الذي يميز الإنسان من الحيوان.
وصدق الله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
فالشرك فوضوية وضياع والتوحيد نظام ونجاة {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله).
ومن هنا نعلم أن ما نعيشه في حياتنا اليومية في عبادتنا وعاداتنا وعلاقتنا وأعمالنا قائم في الغالب على الفوضوية والارتجالية وعدم التنظيم وتلك عادة مقيتة حذر الإسلام المسلم من الاتصاف بها {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
ولو تأملنا حياتنا لوجدنا أننا نعمل أعمالاً دون سابق تخطيط أو تنظيم.
بل تمر الأيام والليالي ولا ينتج الإنسان عملاً مثمراً، فمجالسنا اليومية بماذا تقضى وأين تقضى؟!! سهراتنا الليلة.. بماذا تقضى وأين؟! متى ننام ومتى نستيقظ؟! ألم يؤثر ذلك على عبادتنا وأثر كذلك على أعمالنا.. أليس في حياتنا الإهمال والتسويف.. ألسنا نشتري ما لا نأكله ونخيط ما لا نلبسه ونقتني ما لا نحتاجه.
أليست ارتباطاتنا الدورية يقل نفعها ويكثر إثمها إلا من رحم الله وقليل ما هم، ما هو نظام البيوت والأسر..؟ ما هي أحوال شبابنا وفتياتنا قمة الفوضوية والضياع وانظر إلى أحوال الناس في إجازاتهم لترى مدى انتظامها ونظامهم.
إن هذه الحياة اللامسؤولة هي التي ولدت جيلاً لا يتحمل المسؤولية ولا يلتزم بنظام ولا تنظيم.
انظر إلى الشوارع والطرقات والسرعة الجنونية التي حصدت الآلاف من الشباب وعدم التزام الأنظمة المرورية مما كان سببه إزهاق الأرواح أو العاهات المستديمة.
إنك لا تكاد تمشي في طريق إلا وترى من المخالفات والتجاوزات التي يعملها الكثيرون دون أي شعور بالمسؤولية أو الإحساس بالخطأ.
فضلاً عن ما تراه من تهور وإقدام على الموت من التفحيط والتطعيس في صور دامية يحزن لها القلب وتدمع لها العين.
لو نظرت نظرة عند مدخل كل مسجد رأيت منظراً فوضوياً يدلك على عدم اهتمامنا بالنظام والتقيد به.. فترى الأحذية المترامية والمتكدسة التي في مداخل المساجد في منظر يشوه جمال المسجد ويخالف ما أمره الله به من العناية بالمساجد والاهتمام بنظافتها.
وإن في هدي الإسلام للمسلم في دخول المسجد يدل على اهتمامه بالنظام فتقديم الرجل اليمنى وذكر الذكر الوارد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر إلى نعليه فإن وجد بهما أذى فليمسح بهما الأرض). كل ذلك بعداً عن تلويث المساجد. فلماذا الإصرار على تلك الفوضوية مع وجود ما ينظم ويحفظ.
ومن الفوضوية ما نراه ونشاهده في وقوف السيارات وقوفاً خاطئاً ومخالفاً للأنظمة فلماذا المسلم لا يكون منضبطاً وملتزماً بالأنظمة حتى يسود النظام وتختفي مظاهر الفوضوية في حياتنا.
وإن ذلك الجيل الذي تربى على تلك الفوضوية هو الذي سيرتجل بقراراته ويتعسف في حياته.
إننا نعيش في دوامة كبيرة من الحياة الفوضوية التي تحتاج إلى علاج.
فلنذكر شيئاً من الأسباب لتتضح وسائل العلاج:
1- عدم فهم الإسلام الصحيح الذي نظم حياة المسلمين وحفظ حقوقهم ونظمهم حتى في أدق أحوالهم وأخصها في قضاء الحاجة قال يهودي لسلمان رضي الله عنه: إن نبيكم علمكم حتى الخراءة أي آداب قضاء الحاجة قال نعم.
2- غياب دور الأسرة وانعدام القدوة والأسوة في الأسرة وغياب الأب عن دوره وتهربه عن المسؤولية فالكثير من البنين والبنات لا يرون والدهم إلا في أحوال ضيقة وفي أوقات قصيرة فتنعدم القدوة لديهم مع ما يكون من تصرفات غير لائقة من بعض الآباء فتجعلهم قدوة سيئة لأولادهم.
3- غياب دور المدرسة في التربية والتوجيه والتعليم فالمعلم الذي لا يلتزم بالنظام ولا يتقيد بالأنظمة كيف سيكون قدوة صالحة لتلاميذه.
4- غياب دور الإعلام والمؤسسات الإعلامية في التوعية والتوجيه والتبصير بل قد تكون وسيلة لانتشار الفوضوية في حياة الناس.
5- التحايل على الأنظمة والتساهل في تطبيقها وتقديم العواطف على المصالح مما يجرئ على الفوضوية واللامبالاة.
6- عدم إدراك حقيقة الوقت وقيمته وأهميته.
وإليك بعضاً من وسائل العلاج:
1- غرس الإيمان في القلوب ومراقبة الله تعالى علام الغيوب فالمسلم لا يراقب إلا الله في جميع أعماله وأحواله.
2- إدراك أن النظام جزء من ديننا وعقيدتنا وفيه صلاح حياتنا.
فإدراك أن الإسلام نظم وقت المسلم وعلاقاته وأحواله من أول نهاره إلى نومه يدفع بالمسلم إلى العمل إلى التخطيط والتنظيم.
وأن في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً من أصبح منكم اليوم صائماً ومن أصبح منكم اليوم عاد مريضاً ومن أصبح منكم اليوم اتبع جنازةً ومن أصبح منكم تصدق بصدقة.
فيه إشارة إلى أهمية تنظيم العمل في اليوم والليلة وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات وأمرهم بالآداب الشرعية من غض البصر وكف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى النظام والتقيد به.
3- قيام الأسرة بدورها المطلوب واهتمام الأب بأولاده ليغرس فيهم هذا الخلق الجميل.
وإن في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) لمدرسة في تعلم الآداب والأخلاق.
4- قيام المدرسة بدورها في تفعيل النظام في حياة الطلاب وتشجيعهم، وإظهار القدوة المثلى أمامهم.
5- قيام المؤسسات الإعلامية بدورها تجاه المجتمع وتبني الدعوة إلى النظام والتنظيم.
6- إيجاد العقوبات المناسبة لمن يخالف، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
7- إيجاد الفرص المناسبة للعمل الذي يعود على النظام والانتظام، ويقضي على مظاهر الفوضوية والضياع.
8- تنظيم الدورات التدريبية في التنظيم والتخطيط.
9- إدراك أهمية الوقت واغتنامه وأن في قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) وقوله (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل...) لاهتمام بتنظيم العمل والمبادرة فيه.