.. من الخطأ الكبير الذي تقع فيه النخبة المتّسمة بصفة (الانتلجنسيا) بمفهومها الاجتماعي، القائم على توظيف القدرات العقلية والخلفيات المعرفية والتجاربية لخدمة الجماعة دون احتوائها حزبياً أو طائفياً،
أن تتصور المأزق الحضاري آنياً أو خاصاً بجنس أو نحلة، أو أنّه غير مقدورٍ على تفاديه أو إيقاف تدهوره على الأقل، إذ ما من حضارة إلاّ هي بين إقبال وإدبار، وتجدد واندثار، ولقد أدرك ذلك عالم الاجتماع والتاريخ العربي (ابن خلدون) وتلك الرؤية لا تتعارض مع حفظ الله للذِّكر الحكيم وبه حفظ الإسلام، إذْ أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وأنّ الساعة لا تقوم وفي الأرض من يقول الله الله،
ومن الوهم القطع بأنّ الأُمّة الإسلامية المأزومة في راهنها لم تعشْ المأزقية بكلِّ مرارتها وفداحة آثارها في خير قرونها، لقد سَجَّل القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي مواقف عصيبة هزّت كيان الأُمّة، وكادت تقضي عليها، فسودة براءة وحديث الإفْك، وحروب الردّة، واغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين والفتنة الكبرى التي بدأت في خلافة عثمان بن عفان وبلغت ذروتها في خلافة علي، مأزق تركت أفدح الأثر، ودرك الشقاء فيما تركه (عبد الله بن سبأ) حين أحدث شرخاً في وحدتها الفكرية. هذا الصنف من المتنخبوين حين يتصدّر المشاهد ثم يستبعد الغمَّ والغمّة أو حين يستحكم به اليأس، ثم لا يرفع رأساً ولا يتحرف للخلاص يكون كمن أمِنَ مَكْر الله أو يَئِس من روحه، واستعادة الأزمات من غياهب التاريخ لا يعني التبرير ولا التعذير ولا التخلِّي عن المسؤولية المشتركة بين أطياف المجتمع.
والأُمّة الإسلامية مطالبة في كل لحظة من حياتها وأحوالها بمراجعة نفسها وتقويم منجزها والتحرف للخلاص من أي إخفاق، ولقد نهض علماء أفذاذ للإصلاح والتربية وتنقية مصادر التشريع من أيّ تأويل فاسد، وكل عالم يعالج الأدواء القائمة بالإمكانيات المتاحة، وتجهيز خطاب ملائم وقادر على تلافي الأخطاء، ولقد شهد التاريخ الإسلامي خطابات متعدّدة استجابت للواقع المعاش ووفق الطاقة، وأي استدعاء للتاريخ وأزماته لا يكون حافزاً على التحرف أو التحيز أو الاتعاظ يكون مثبطاً للعزمات، وكل غفلة تفوت على الأُمّة أخذ الحذر والأسلحة تجعلها عرضة للافتتان، ومن المسيء أن يظل البعض يُذكِّر بالفترات المضيئة لتحطيم المشاعر لا لاستنهاض الهمم، والأسوأ منه من يُمْعن في التخذيل والاستهجان والإحباط والتيئيس وجلد الذات، وتقديم التفوق المدني للغرب على أنّه المنقذ من الهلكة والتيه بوصفه تجربة حية مكَّنت له في الأرض، وكأنّ تخلُّف المسلمين مقترف مَبْدئي لا تطبيقي، وممارسة هذا النوع من الخبال لا يزيد الأُمّة إلاّ هواناً وحزناً واستمراء للهزائم وتهافتاً مشيناً على تجربة الآخر دون تحرف ذاتي على حد:
(فاللَّيْتُ لَيْس يسيغُ إلاّ ما افْتَرس)
والناس بين مثالي مقطوع الصلة بالواقع وواقعي مقطوع الصلة بالمبادئ، والنادر من يقدِّر ويدبِّر ويزن الأمور ويوازن في الطرح ثم لا يكون أمره عليه غمة.
ومن استبعد العقاب أو الابتلاء أو الموعظة فيما ينتاب الأُمّة من نكبات في الأموال والأنفس والأوطان واكتفى بربط ذلك بالعوامل الطبيعية، فقد أمعن في الغفلة والجفوة ونسيان ما ذكر به وأغرق في المادية.
واستعادة الأحداث الحسام التي مُنيت بها الأُمّة الإسلامية للتدبُّر والاتعاظ وتفادي عودة التاريخ بكل مآسيه أجدى من الإغماض فيها أو تَبْئِيرِها لتخوين السلف وإدانة التاريخ وفقه الفتن يحدِّد الموقف السليم منها في القول والفعل، وخير المواقف موقف السلفية مما بدر بين صفوة الصفوة المتمثل بالكف عن الخوض باللسان بعد ما أُنْجوا من الخوض بالسنان، فالخوض في مثل تلك الفتن مضلة أفهام ومزلة أقدام، وليس هناك ما يمنع من استحضار الأحداث المؤلمة لتفادي الوقوع في مثلها، وبعض من عاشوا الأحداث أو استعادوها أخذهم الاندفاع العاطفي، ومن ثم لم يوفقوا في التفادي بل تنازعهم طرفا الإفراط والتفريط، وأوضح مثلين على ذلك (الخوارج) و(المرجئة) فطائفة ناوأت الحكام وثارت عليهم وأحدثت فراغات دستورية عرضت البلاد والعباد لفتن عمياء، وأخرى مالأت حكام الجور وبرَّرت مقترفاتهم حتى امتدت الممالأة إلى الإيمان، فكان على أقوال أربعة، أسوؤها القول بأنّ الإيمان يتحقق بالقول المجرّد، وأنّه ثابت لا يزيد ولا ينقص وإن لم تكن معرفة ولا عمل على أنّ هناك ارجاءً دون إرجاء، فإرجاء الفقهاء يختلف عن إرجاء المتكلمة ومباحث ذلك عند من كتبوا عن الإيمان وعن الملل والنحل، والذي يهمنا الجانب السياسي لأنّه مظنة الفتن، ومبعث الصراع والصدام.
والملل والنحل في جملتها إن هي إلاّ إفراز الممارسات السياسية الضاغطة، والناس في النهاية على دين ملوكهم، وبعض الممارسات قد لا يجد أهل الذِّكر لها حلاً ولا تبريراً ممّا يَسْتَتْبع التطرُّف في الآراء، وعند التشيؤ وتضاد المواقف تبدأ محاولة كل طائفة احتواء الرأي العام وحمله على تأييدها تحت وابل من الشعارات الزائفة، ولتحقيق مزيد من المكتسبات المضرة بالأُمّة فإنها تتعمّد الإسراف في الادعاء والكذب واختلاق أحاديث الوعد والوعيد وليِّ أعناق النصوص بتأويلات فاسدة،
ولقد أدى هذا التغرير والتزوير إلى أن حمل المُسْلم سلاحه في وجه أخيه المسلم، وتوقّفت الفتوحات الإسلامية، وأصبح بأس المسلمين بينهم شديداً، وهذه العداوات أدّت إلى فساد العقائد من جهة، ووهن النفوس والإحباط من جهة أخرى، ومن مضلات الفتن ما يذهب إليه البعض تحت تأثير الإحباط وزيف الادعاء من أنّ المنقذ للأُمّة من الوهن أخذها بعصم الحضارة المضادة واقتفاء أثرها وتطبيق مذاهبها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية وترديد مقولة: (التجربة أكبر برهان) وكم هو الفرق بين العلم البحت بوصفه مشتركاً إنسانياً، والفكر والثقافة والقيم الأخلاقية المتباينة والمجسّدة للخصوصية، وهذا مؤدّى قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، والشرعة والمنهاج يختلفان عمّا شرع من أصول الدين في قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ...} والتهافت على شرعة الآخر ومنهاجه يختلف عن المشترك الإنساني من علم ومكتشفات للسنن الكونية ومؤسسات مدنية، ومثل هذه الدعوات التي لا تفرق بين ما هو ديني وإنساني مؤشر جهل وتسطح وإغراق في التيه، ووقوع في حبائل مقولة إمّا العلمانية والتقدم أو الإسلام والتخلُّف. وكل مأزق حضاري يتمخض عن خطابات متشنجة لا تحسن إلاّ لغة التخوين والتجريم والتكفير، ولو ردت الظواهر الضاغطة إلى مصادرها لكان سوادها الأعظم من جَلَدِ المنافق وغفلة المؤمن.
والإسلام حين يكون نصاً مفتوحاً لكل جديد ومشاركاً أساسياً للإنسانية في العلم وفيما يُرِيه الله للموهوبين من خلقه من آيات في الآفاق وفي الأنفس، فإنّه لا يمنع من مشاركة الحضارات كافة في المكتشفات والمنجزات والآليات والإجراءات، إذ ليس في نصوصه ولا في مقاصده ما يمنع من محققات الغلبة وإعداد القوة المستطاعة حسياً ومعنوياً، ولن تتحقق الاستجابة لأمر الله إلاّ بالتحرف للصناعة والعلم والسير في مناكب الأرض واستقدام الكفاءات العالمية وبث الثقة في النفوس وتوفير الأجواء الملائمة محلياً وعالمياً ليمارس الإنسان الموهوب العمل المنتج ويستغل ما وهبه الله من طاقات، وكل ما تتوصل إليه الإنسانية من مكتشفات وكل ما تحقق من مخترعات يعود نفعه للإنسانية دون النظر إلى جنس أو عقيدة، ولا أحسب الإسلام يحول دون توفير الأجواء المناسبة لاستغلال الطاقات الكامنة في البشر، ومن الخير أن تتوفر الأجواء والإمكانيات للإنسان العربي المسلم، فكما أنّه كلف بإنقاذ البشرية من التيه فإنّه مكلّف بتقديم الخدمات التي تكفل للإنسانية الأمن والحرية والرخاء، إنّ رسالة المسلم تتمثّل في عبادة الخالق كما أمر وعمارة الكون وهداية البشرية وفي الحديث (لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
ولن يتم شيء من ذلك إلاّ بصياغة خطاب يحقق كرامة الإنسان كما أرادها من كرَّم بني آدم. والتكريم بمفهومه العام لا يحول دون امتهان من خالف أمر ربه {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} فكرامة الإنسان بصفته الإنسانية لا تتعارض مع ما يعرض من كسب يرديه وهذا ما يدل عليه حديث الغثائية.