Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/07/2008 G Issue 13088
الثلاثاء 26 رجب 1429   العدد  13088
وزارة الصحة.. ساندوها.. لا تهاجموها!
عثمان بن عبدالعزيز الربيعة

ليس هذا مقال استعطاف كما يوحي العنوان.

بل هو تأكيد لمعنى العلاقة التي يجب أن تسود بين وزارة الصحة ومنتقديها، وهي لا تخرج عن علاقة الناقد الناصح وليس العدو المهاجم. الفارق بين الاثنين أن الأول يسمي الأشياء بأسمائها ويضع النقاط على الحروف..

.. ويشير إلى الخلل أو القصور بوضوح. جل همه الرغبة في التحسين. أما الثاني فهو يعمم ولا يحدد ويلقي الكلام على عواهنه. بل ربما يحاول الصيد في الماء العكر إن لاحت له فرصة مناسبة، ويبني على أنصاف المعلومات استنتاجات مضاعفة.

ومن النقاد الناصحين من يقارن بين ما يوحي به الزخم الإعلامي الذي يصاحب تصريحات المسؤولين بوزارة الصحة وإعلانهم عن إنجازاتها على مستوى القمة وبين واقع الخدمات الصحية على مستوى القاعدة. ثم يحاول إيضاح نقاط الضعف ويورد أمثلة على ما يقول أو أدلة أو شواهد.

ومعروف أن الإعلام سلاح ذو حدين. فهو في الوقت الذي تبرز من خلاله المزايا، تبرز أيضاً العيوب. فالعيوب التي كانت صغيرة لا يلتفت إليها قد ينعكس عليها ضوء الإعلام فيضخمها بحيث تبدو أكبر من حقيقتها. ربما يقول قائل: إذن على نفسها جنت براقش.

لكن المسألة ليست على هذا النحو من البساطة. فالحاجة إلى البروز الإعلامي ليست بالضرورة حاجة شخصية بقدر ما هي حاجة مؤسسية تنبع من حاجة المؤسسة إلى الإنصاف في إصدار الأحكام.

وعلى سبيل المثال نرى أن وسائل الإعلام تسلط الضوء على الإنجازات الطبية والعمليات النادرة في بعض المؤسسات الصحية الحكومية أو الخاصة وتعطي الانطباع بأن التقدم الطبي منحصر في هذه المؤسسات. وبحرص كبار القوم على ارتياد هذه المؤسسات، لأنها في ظنهم هي موضع الثقة والاطمئنان. وبعض الناس تبهرهم المباني الحديثة والأسماء الرنانة والتقنيات المعقدة. وفي الناحية المقابلة لا يلفت انتباه هؤلاء وأولئك أن التحصين الموسع - مثلاً - جنب مئات الآلاف من الناس ويلات الأمراض والعاهات - مع توفيق الله. وأن برامج الفحص المبكر لحديثي الولادة أو المقبلين على الزواج تساهم في القضاء على مسببات الأمراض قبل حدوثها. وأن منع استيراد الدم من الخارج وتجهيز مختبرات لفحص مشتقات الدم والمتبرعين بدمائهم كان من أسباب الحد من تفشي مرض الإيدز، وأن التشدد في الاشتراطات الصحية ومراقبة صحة الحجاج كان له الدور الأكبر - بعد إرادة الله - في حماية البلاد من الأوبئة الوافدة. وأننا نقف الآن على أبواب القضاء نهائياً على مرض البلهارسيا الذي جلب أسباب الموت المبكر للآلاف من سكان المملكة. كل ذلك ومثله كثير لم يكن ينفذ من مستشفيات مرجعية، بل من مرافق وزارة الصحة في المركز والأطراف. لذلك ليس هناك ما يدعو للعجب - حين يتجاهل بعض الكتاب هذا الجانب الوقائي بإنجازاته بعيدة الأثر وينصب اهتمامهم على ما يعتري الجانب العلاجي في خدمات المستشفيات والمراكز الصحية بالمحافظات من قصور - أن يتحدث قادة الوزارة فيعلنوا أمام الملأ أن وزارة الصحة إلى جانب اهتمامها وانشغالها بالجانب الوقائي، لم تهمل أو تتغافل عن الخدمات العلاجية، وأنها في سبيل ذلك نفذت أو تنفذ منذ بضع سنوات ما يربو على (114) مشروعاً لمستشفيات عامة أو تخصصية أو مرجعية في مناطق المملكة المختلفة، وذلك لكي تقضي على التفاوت الحاصل في مستوى الخدمات بين المناطق، وأنها تنشئ ما يقارب ألفاً وخمسمائة مركز صحي في مدن المملكة المختلفة وقراها لكي تتحول مباني المراكز الصحية الهزيلة المستأجرة إلى مباني حديثة مكتملة التجهيز. وأن الوزارة بذلك كله تهدف إلى توفير البنية الأساسية السليمة، لخدمات صحية جيدة.

وليت وزارة الصحة تفرغت للخدمات الوقائية، وإنشاء البنية الأساسية فحسب، لكنها تتحمل فوق ذلك أعباء أشد وأثقل.

فهي تقوم بتشغيل وصيانة مرافقها الصحية (215 مستشفى و1900 مركز صحي وتوظيف العاملين (مائة وخمسين ألف فرد) وتقديم الخدمة الصحية والدواء المجاني لخمسة وستين مليون مراجع ومليون ونصف المليون منوم، وكذلك لملايين الحجاج والمعتمرين وتتحمل ميزانيتها تكاليف علاج المئات الذين يرسلون للعلاج في الخارج سنوياً ومنهم من يقضي شهوراً طويلة في العلاج التأهيلي، كما تتحمل تكاليف علاج من تضطرهم حالات طارئة إلى التنويم في مستشفيات خاصة بداخل المملكة. وهي تسجل الأدوية وتفسحها وتراقب تداولها (إلى حين انتقال صلاحية ذلك إلى الهيئة العامة للغذاء والدواء)، وتنشئ مراكز السموم والكيمياء الشرعية لتحليل المواد المشتبهة جنائياً. وهي التي تكافح بعوض الملاريا برش المبيدات داخل المنازل في المناطق الموبوءة، وتدعم أنشطة المكافحة في المناطق اليمينية المتاخمة للحدود. وتكافح كذلك القواقع الناقلة للبلهارسيا في المصادر المائية. وهي التي تحملت حتى عام 1429هـ عبء التعليم الصحي الفني، حتى أمكن رفع نسبة السعودة بوزارة الصحة من 9% للممرضين والممرضات عام 1403هـ إلى 41% عام 1427هـ، ومن 26% للفنيين الآخرين عام 1403هـ إلى 71% عام 1427هـ، وهي التي تتولى الترخيص لآلاف المنشآت الصحية الأهلية من مستشفيات ومستوصفات ومحلات نظارات وصيدليات والعاملين فيها ومراقبتها.

إنها أدوار متعددة يقوم بها جهاز واحد: هو وزارة الصحة. وهي مع هذا كله تجمع بين دور مقدم الخدمة ومشتري الخدمة والرقيب عليها. هذه الأدوار مجتمعة تغذيها ميزانية سنوية بلغت في العام المالي الحالي 25 بليون ريال: ويستكثرها البعض ويتساءل: أين تذهب اعتمادات هذه الميزانية - لماذا زادت الأموال ولم تتحسن الأحوال؟ بعض هؤلاء الذين يتساءلون ويكتبون ربما اعتادوا على مستوى مستشفيات برامج التشغيل الكبرى أو المستشفيات والمجمعات الطبية الخاصة الفاخرة، فصاروا يقيسون عليها. وإنه لشيء حسن أن يرنو المرء إلى الأفضل، لكن الإنصاف يقتضي الفحص قبل القياس. وهذه بعض نتائج الفحص:

- يتوافر لدى مستشفيات برامج التشغيل الكبرى من الاعتمادات ما يجعلها تصرف على السرير الواحد في السنة أربعة أضعاف ما يتوافر لدى وزارة الصحة للصرف على السرير.

إن زهاء 70% من أطباء القطاعات الحكومية - غير وزارة الصحة - هم من الأخصائيين والاستشاريين. أما في وزارة الصحة فإن نسبتهم لا تتعدى 40%، لأن العديد من الاستشاريين والأخصائيين في الخارج لا يرغبون العمل في المحافظات إذ لا ترضيهم الرواتب المعروضة عليهم من ناحية ولا يحبذون العمل في أماكن لا تتوافر فيها مدارس لأولادهم أو البيئة الاجتماعية المناسبة.

- إن 48% من أطباء القطاعات الحكومية - غير وزارة الصحة - هم من السعوديين. أما في وزارة الصحة فإن نسبتهم لا تتعدى 19%، بل أنها في غير المدن الكبرى تتراوح بين صفر و50%. ذلك لأن تلك القطاعات لديها من الرواتب والحوافز الأخرى ما يجعلهم يتعلقون بوظائف تلك القطاعات.

- إن وزارة الصحة لا تنتقي الخريجين من المعاهد والكليات السعودية كما تفعل برامج التشغيل الحكومية وكذلك القطاع الخاص، بل عليها أن تعينهم على وظائفها الشاغرة أو المشغولة بمتعاقدين.

- إن الميزانية التي تبدو كبيرة هي كبيرة فعلاً، لكن عند النظر إلى الوراء نتذكر أن الميزانية بلغت في عام 1404-1405هـ - أي قبل ربع قرن من الزمان - عشرة آلاف مليون ريال، ثم انخفضت بشكل حاد ولم تتجاوز على مدى أحد عشر عاماً ثمانية بلايين ريال. ولم تستحدث خلالها وظائف جديدة ولا مراكز صحية أو مستشفيات جديدة، وتقلصت اعتمادات التشغيل والصيانة والإيجارات والأجهزة الطبية والأدوية، في حين واصل النمو السكاني صعوده، واستمر معدل العمر المأمول في الارتفاع، وزاد انتشار الأمراض المزمنة العصرية التي تتطلب علاجاً طويلاً ومراجعات متعددة بحكم طبيعة العصر وأنماط المعيشة. فعلى سبيل المثال قدر انتشار داء السكري في عام 1400هـ بما يقارب 5%، ثم قدر في عام 1417هـ بما يقارب 18% ممن يتجاوزون في العمر ثلاثين عاماً. وصار لزاماً لمواجهة الطلب المتزايد - فتح مرافق صحية جديدة بدون ملاكات وظيفية أو اعتمادات مالية في الميزانية، وتراكمت على الوزارة ديون فاقت ميزانياتها في ذلك الوقت. لذلك كان لابد أن يذهب الجزء الأعظم من ميزانيات الوزارة - التي ارتفعت تدريجياً منذ عام 1417-1418هـ حتى وصلت هذا العام إلى 25 مليار ريال - لردم الهوة العميقة التي خلفتها تلك السنوات العجاف واستدراك ما فات آنذاك.

فهل هذه الميزانية كبيرة حقا - خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن عدد السكان قد تضاعف وأن بعض المشكلات الصحية الناجمة غالباً عن أساليب الحياة العصرية قد تضاعف انتشارها مثل داء السكري الذي يصل معدل انتشاره الآن إلى 28% ممن هم فوق 30 عاماً أو حوادث الطرق التي تضاعف عدد المصابين فيها عما قبل عشر سنوات؟

لا يفهم مما سبق ذكره أنه سرد لأعذار أو تغطية للتقصير، بل هو محاولة في كل مكان ولكل الناس. وقد فعلت ما استطاعت، وهل يتوقع أن يتم ذلك خالياً من القصور والعوائق. كأن يكون هناك مشكلات إدارية، أو مشكلات تتعلق بجودة النوعية، أو أخطاء طبية. أو يطرأ بين الفينة والأخرى وهنا وهناك نقص في بعض أصناف الأدوية، أو تأخير في صيانة أجهزة طبية. أو نقص في الأسرة - وعلى الأخص أسرة العناية المركزة والحضانة وفي مدينة الرياض بالذات - بسبب عدم تناسب السعة السريرية للمستشفيات الحكومية مع الزيادة الطارئة في السكان، وما يترتب على ذلك من صعوبات في استقبال الحالات الطارئة أو فترات انتظار للمواعيد طويلة.

هذه العينات من أوجه القصور والعوائق لا تكفي فيها المواجهة بحلول مؤقتة على شاكلة إطفاء الحرائق، ولاسيما أنها لا تنشأ فقط من أسباب داخلية بإمكان الوزارة أن تسيطر عليها، بل إن لبعضها جذوراً تضرب في العمق وليس للوزارة تأثير (إطفائي) عليها.

مثال ذلك ما يتعلق بالأساليب الإدارية والمالية البيروقراطية المتوارثة.

وكفاءة شركات التوريد والصيانة، وثقافة العمل والإنتاجية والانتماء للمؤسسة، والاختيار الدقيق للآلاف المؤلفة من المتعاقدين ومراقبة أدائهم.

ومن منطلق الاقتناع بعدم كفاية الحلول المؤقتة (الترقيعية) رأت الوزارة أن الإصلاح الجذري هو الخيار الأفضل. وهذا الإصلاح يجب أن يتوجه إلى النظام الصحي بكليته وليس إلى أجزاء منه.

لذا اقترحت الوزارة مشروع تطوير للنظام الصحي يشمل الخطوات التالية:

1- تطبيق أسلوب شراء الخدمة - أي الدفع مقابل خدمة كل مريض، بدلاً من أسلوب الاعتماد السنوي للبنود.

2- نشر مظلة التأمين الصحي بحيث تشمل جميع المواطنين، ليكون التأمين قناة التمويل الرئيسية المخصصة لشراء الخدمة الصحية بدلاً من اعتمادات البنود الخاضعة لحدود الصلاحيات المالية وإجراءات الحجز وتوفر البند... إلخ.

3- الفصل بين الجهة التي تشتري الخدمة والتي تقدمها، مما يمكّن من اختيار الخدمة الجيدة والمحاسبة على أساسها ومراقبة أدائها.. ويتم ذلك من خلال إنشاء صندوق مستقل لتمويل الخدمات الصحية.

4- اعتبار الإدارة الذاتية غير البيروقراطية للمستشفيات هي الأسلوب الصحيح، وإعطاؤها الاستقلالية والمرونة عن طريق إنشاء مؤسسة عامة لمستشفيات وزارة الصحة تقوم بدور مقدم الخدمة.

5- تركيز وزارة الصحة على تقديم وتطوير خدمات الرعاية الصحية الأولية (طبيب الأسرة) والخدمات الوقائية ورقابة الأداء وضمان كفاية الخدمات الصحية وتوزيعها العادل.

6- تطبيق أسلوب اللا مركزية في الإدارة وتخصيص ميزانيات مستقلة لمديريات الشؤون الصحية.

7- إنشاء هيئة وطنية مستقلة لاعتماد المنشآت الصحية وتقويم أدائها وفقاً لمعايير وطنية موحدة للجودة.

هذا المشروع المطروح الآن أمام مجلس الوزراء لم يأت من فراغ، بل كان ثمرة التجارب الطويلة التي مرت بها وزارة الصحة، وينطلق من نفس الأسس والمبادئ التي تضمنها النظام الصحي الصادر في 23-3/هـ وأوصت بها دراسات استراتيجية سابقة.

وزارة الصحة لم تنكر إذن وجود القصور والعوائق، ولم تضرب بالشكاوى والمطالب عرض الحائط، ولم يعمها وهج الإعلام عن معرفة حقائق الواقع، بل هي قد سبقت المنتقدين والمطالبين وسعت إلى تقديم حلول جذرية شاملة.

فيا أيها الكتاب والمنتقدون ساندوا وزارة الصحة في إنجاح مسعاها. ولا أقول أفسحوا لها الطريق، بل أقول أضيئوا لها الطريق بالنقد الناصح، فإن الحملات الشعواء تسبب العتمة.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد