وأرجو في ظل هذه الفوضى الفعلية والقولية غير الخلاّقة التي تجتاح مشاهدنا العربية والإسلامية ألا تصدُق علينا مقولة (بوليفار) عن (أمريكا اللاتينية): (لا وجود للثقة الحسنة في أمريكا لا بين الناس ولا بين الدول، المعاهدات
أوراق، والدساتير كتب، والانتخابات معارك، والحرية فوضى، والحياة تعذيب، العمل الوحيد الذي يستطيع الإنسان القيام به في أمريكا هو أن يهاجر)، ومؤشر الاضطراب أنني عندما حذَّرت من خلل (الوحدة الفكرية) في إحدى محاضراتي، عدّها البعض مقولة كارثية، ظناً منه أنها مصادرة للرأي وإجهاض للحوار وتعدّ على التعددية، وإغلاق لباب الاجتهاد المشروع بشروطه وإمكانياته، وتجريم للمعارضة مع أن ما أعنيه بالوحدة ضبط الإيقاع واحترام المرجعية وتعزيز الثوابت وتحقيق الخصوصية التي هي حق مشروع لكل كائن حسي أو معنوي فردي أو جمعي، وتحديد المسار والتفريق بين الاختلاف المعتبر والتفرق المحظور، واختلاف التنوع مصطلح أصولي حرره العلماء وفرقوا بينه وبين سائر الاختلافات، وخير من تقصى ذلك شيح المقاصد ومحررها (الشاطبي) صاحب الموافقات، وشيخ الإسلام (ابن تيمية) رحمهما الله، ومن كتب من المتأخرين عن فقه الائتلاف وفقه الاختلاف وفق التعامل مع المخالف وفقه الخلاف بين المسلمين، إن الذي أقصده بالوحدة الفكرية يختلف تماما عمّا يتصوره البعض.
وآفة المشاهد اضطراب المفاهيم حول المقاصد الذاتية، وكيف أسمح لنفسي قفل باب الاجتهاد واستبعاد اختلاف وجهات النظر، والعقول مختلفة والنصوص حمّالة. والذين يتعمدون نسف الجسور وتعطيل قنوات التواصل والتوصيل ويستبعدون القواسم المشتركة هم المصابون بالأثرة والمصادرة وعدم التفسح في المجالس، والله لا يفسح إلا لمن تفسح للحق وللمستحق، واستيقن قلبُه ذلك كله.
وإشكالية بعض الخطابات تلبسها غير الواعي بالأدلجة والتسييس، وفراغها من المعرفة الشاملة والتجربة الحصيفة وفقدها لبعد النظر وإنزال الأمور منازلها، وبخاصة عند معالجة الأوضاع القائمة، ومكمن الخطورة أن وراء سوء الأحوال من يود ازديادها وارتكاس أهلها في أوحالها، وأن بين ذويها من يظن أنها بنت لحظتها، وأن ليس لها من مصادر إلا ضعف الذات وجهلها.
وقيام الضعف والجهل لا يكفي لتقصي المصادر والموارد وغياب شيء من الأسباب إن لم يعقِّد المسائل فإنه يبطئ بحسمها وتقليل مؤونة معالجتها، وذلك بعض مؤزِّمات الحضارة، وابتسار الجزئيات هدر للطاقات، وإرباك للمسيرة.
وإذ لا نجد حرجا من التماس الموزون بين الفكر السياسي والديني فإن حساسية الموقف تتطلب أخذ الحذر، واتقاء تقديم العربة على الحصان.
فالذين يخوضون في مثل هذه الأحاديث الحساسة يبتدرون الأحكام، ولا يرقبون النضوج، بحيث لا تجد إلا تجريحاً أو تكفيراً أو تفسيقاً أو استخفافاً أو تهوينا وتوهينا، وليست تلك الاتهامات بأقل سوءاً من تحمل الدعاة والمؤسسات الدينية ما لا تحتمل من الاتهامات، وعدها مصدر التشدد والعنف، وإذ لا نحمل أنفسنا مسؤولية التزكية أو الإدانة، فإن من مصلحة الأمة أن نواجه قدرنا بثقة، وأن لا يكون شغلنا الشاغل التنصل من المسؤولية ولا أن نظن أن المشكلات بِنْتَ لحظتها، ومن حشر نفسه في أي زاوية أهدر طاقاته، وعمَّق المآزق، وأخلى الثغور.
والعقيدة السليمة من الشوائب تأخذ بحجز ذويها عن الإثارة والتهييج لأن الخطابات التحريضية تعوِّض جسور التواصل، وتقطِّع الأرحام، وإذ مرت المآزق الحضارية في القرون الأولى بسلام فإنها لن تمر اليوم كما مرت بالأمس لفقد التكافؤ مع الحضارات المناوئة، ولوجود من يمتلك فتح الملفات المغلقة أو المتوهمة وفتحها كما قيام الفتن أو بدء الحروب تُملك البداية ولا تُملك النهاية.
لقد كانت إشكاليات المثقفين من قبل مع السلطة أو مع أهل الذكر، وهي إشكاليات لا يستهان بها، ولكنها بلا شك دون ما هو قائم، أما المثقفون اليوم فيصطدمون مع جبهتين خطيرتين (الدين) و(الرأي العام) فيما تظل السلطة خارج السياق، والمأثور أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أشدّ حرصاً على المتلقين في أمر العقائد، بحيث لا يتيح أية فرصة للقول بالرأي أو التزود من الآخر أما ما سوى ذلك، فهو الأشد حرصاً على استثمار التجربة والخبرة، لقد عوَّل على خبرة (أبي الأريقط الدؤلي) وهو مشرك، وغضب على (عمر بن الخطاب) حين وجد معه شيئا من التوراة، مما يؤكد الانتفاع بالمنجز البشري في العلوم البحتة والخبرة، أما تحقيق التصور الإيماني والأخلاقي فالتلقي لا يكون إلا من المشرِّع، واتباعُ السنن والتقليد الأعمى شأن المنهزمين، وهو ارتداد على الأدبار، فماذا استفادت الأمة العربية من صلتها بالغرب، لقد كان غيرنا يقتبس اقتباس التحقيق أما التبعيون من أمتنا فيسترفدون استرفاد التقليد، وكم هو الفرق بين الاستفادة من ظواهر الحياة الدنيا، وتقمص الأخلاق والتصورات التي حذر منها العلماء، و(لأبي الأعلى المودودي) في كتابه (الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة) رؤية صائبة في مجال استثمار المنجز الإنساني في مجال العلم والمدنية، والمتحَدُّون بالتجربة (اليابانية) لم يستوعبوا الخلفية التاريخية وإمكانيات كل من الطرفين (الياباني) و(العربي) قبل التواصل، ولمَّا لم أكن بصدد تحقيق الملابسات فإنني أود ترشيد النقد ليكون القطع مفصليا لا يتجاوز المحز، إذ مللنا من التلاوم، وترديد النقد الذي لا يصيب المقصود خاصة، وما تفيض به المشاهد كافة يبعث على الشك والارتياب والخوف، وإن لم يكن هاجس المتناجين من باب التناجي بالإثم والعدوان، فكم من غافل أو مغفل يخرب أشياء أمته بيده، ظنا منه أن سوء عمله حسن، وفي التنزيل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ومن الخير لهذا الصنف المتهافت على فتات الموائد أن تعدو عينه إلى ما خلّفه التاريخ بكل مراحله من وثائق، وما كتبه القادة والزعماء وصناع القرار والمفكرون من مذكرات، وما رصده المؤرخون من أسباب أدت إلى سقوط الدول واضمحلال الحضارات، لقد كنت حديث عهد بقراءة (مذكرات السلطان عبدالحميد) وكتاب (الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط) للدكتور علي بن محمد الصلابي، وكنت من قبل قد استعرضت على عجل (نشوء وسقوط القوى العظمى) ل(بول كينيدي) الذي أنجز أضخم استشراف للمستقبل في كتابه (الإعداد للقرن الحادي والعشرين) وأذكر أنني أشرت إلى هذين الكتابين في بعض ما عرضت له من مؤلفات مؤثرة على مسار الفكر السياسي، وأمنيتي أن أعود إليها بنفسٍ أطول وتَشْوير أعمق، فنحن أحوج ما نكون في ظل هذه المخاضات المؤلمة إلى التأسيس المعرفي لنربط على القلوب ونثبت الأفئدة والأقدام.
وخلاصة القول: أن للمآزق الحضارية التي تخنق في مضائقها الأمة تداعياتها غير أنها تمرق من الذاكرة كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة بحيث لا يعلق فيه منها شيء, وكيف تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون الأحداث والحوادث ولا يزنون الأمور، ومثلما أن الأمة بحاجة إلى قادة سياسيين محنكين فإنها أحوج ما تكون إلى قادة فكر واعين يتلقون التداعيات كما تتلقى الأرض الطيبة وابل المطر وطلّه، فهل من مبتدر مدَّكر.