في مقبرة النسيم.. تهيم خواطرك، ويسرح فكرك، حينما تودع العزيز.. وأيّ عزيز نفتقد مآثره، إنه العم الغالي محمد بن عثمان الركبان أبو عبدالله.. قطب الحرس الوطني والتعليم الأخلاقي، ذلك الحليم المشعّ بالثقافة والتعليم.. يبكيك اسمه، وتذرف دموعك لسيرته العطرة.. نزيه بدرجة امتياز، عفيف النفس لن تقلق إذا أتيته في حاجة.. متواضع جم، تقف عنده الكلمات، ثم يستعصي محبر قلمك بجمع الكلمات عنه.
رحل العم محمد الركبان إلى مآل الجميع، ثم دفن في مثواه الأخير، في مجمع مهيب، دلالة على حسن الختام بإذن الله، آلاف المشيعين حضروا الصلاة والوداع.. هكذا يكون الختام وإلا فلا.. طابت مآثرك الجنان إلى رحمة الله أبا عبدالله.
محمد الركبان، أو كما يحلو أن يكنى بأبي عبدالله، جامع فريد.. أحبه القاصي والقريب. بدأ من المدينة الحالمة في ريع شبابه، تعلم في صلف الأيام بين أجدرة الطين ومزارع الأجداد.. يسمع صهيب الميكنة الزراعية، يعانق مع رنين صوتها أسطر المتنبي، وقواعد اللغة.. ويستذكر الفقه والدين ويترنم بالقرآن في مساجد الطين العامرة بالإيمان في مدينة الوفاء المجمعة.. تلك البيوت النيرة بالإيمان والتقى.. تلك التي خرّجت الشيخ عبدالعزيز التويجري والشيخ بن محمد بن جبير ومحمد الرشيد وعثمان الصالح والشيخ الركبان والأديب الحقيل واليحيى والمئات من المخلصين الأوفياء.
رحل الوالد والعم محمد الركبان، الذي كان المعلم والمربي في مدرسة الملك عبدالعزيز بالمجمعة، كان مديراً ومعلماً فذاً.. استقطبه الشيخ عبدالعزيز التويجري ليكون الأمين والسر والمأمن على أمور الحرس الوطني مديراً لشؤون موظفيه.. سنون طوال وصفها البعض بأنها سنوات التأسيس والتثبيت، عرف بنزاهته وشهامة فريدة، يصعب تعويضه.. بنى شؤون الموظفين العسكريين والمدنيين على هدى، وظلل مكارم الأخلاق فيه.. جاد بفعله تربية الموظفين، أسس الخلق والتعامل، ساعد ووظف الضعيف قبل القوي رحم الثكلى وشدّ من أزرهن، ساعد الشباب يشفع عند الغير.. تجادل حتى يصل بالمشفوع له إلى مبتغاه، فتح منزله العامر للناس، يراعه تحمل الخط الجميل.
كم من الملفات والأسطر تجاوزها العم محمد، وكم من الناس خلّدوا ذكراه، وكم من الناس تذكروا جميله..
يروي لي أحد الموظفين في التسعينات أن كلّ معاملة تعرض على الشيخ التويجري لا يوقّع أدناه ما لم يجد فيها شرح العم محمّد، فيوقع عليها الشيخ وهو في اطمئنان تام -رحمهما الله-.
العم محمّد عاش نزيهاً وكريماً، ومات وهو يحمل خزينة كبيرة من محبة الناس له.. عزائي لنفسي أن مات الوالد والعم الكريم، وعزاءنا للأبناء الأوفياء د. عبدالله والأساتذة: أحمد وعبدالعزيز وخالد ووليد وأيمن ورائد وطارق وزياد وعثمان.. والأخوات الكريمات. تلك نخبة من البر والوفاء، كانوا يشعرون برحيل الأب، تواجدوا في ليلة الوداع.. شعروا بالإيمان الكبير حينما يلهمك الله بوداع الأحبة.
رجال استأثروا المجدّ من أبيهم، وتقمصوا شخصيته الكريمة: تواضع وتقدير مكانة، وأخلاق.. إنّها التربية الناشئة على الخير والإيمان.
لكِ أم عبدالله ولكِ أم أحمد، الوالدتان الصابرتان على فراق الزوج والأخ والأب والحبيب، إليكما مع البنات الكريمات صبراً وسلواناً ودموعاً تتباكى على فراق هذا الفريد في خلقه.. لن تلامن إذا بكيتن ولن تلامن إذا تجادلت العيون مع دموعها، لكنني أثق بأن الله بين العيون.. اصبرن واحتسبن، اكثرن من الدعاء له بالرحمة والمغفرة.. فلن يفيد العم سوى الدعاء. فيكُنَّ ما يدعو للاعتزاز: إيمان وصبر وأخلاق.. هكذا هو تميّز نساء المؤمنين.
إليكم أبناء العم يداً تحمو من ذكرى حياة الأب وتبرد من وداعه، يقيناً بقبول الله له بمشيئة الله وتوفيقه: عثمان أخ حبيب، أقرأ في عينيه حزنَ أبيه، عثمان نور إخوته، براءة من جيل محبب للقلب ينظر إليك على أنك أخوه وأبوه.. دعائي له بالتوفيق، وأن ينير طريقه ببر والدته وإخوته، لن يضيع بنانه، فهو في أيدٍ أمينة وإخوة بررة كرام.
رحمك الله أيّها العم محمد وأسكنك الله فسيح جناته.. وألهم ذويك الصبر والسلوان.