هذا الرجل غير راضٍ عن نفسه، ومردّ هذا بعض من المعاناة؛ فهو الحريص على تكامل بعض من جوانب شخصيته وسلوكه الذاتي، إشكاله مع نفسه دون أعراض مرضية ولذا فهو منشغل بالبحث عن وسيلة تعينه للخلاص مما يبدو سلباً وعبئاً يعيق بعضاً من حيويته.
وثقيل عليه وخزات الملكة الروحية حين تبدو تلك السلبيات على سلوكه وإن كانت حالته لا تستدعي معالجاً أو طبيباً نفسياً لذا فقد لجأ إلى رجل مسن له خبرة بجانب تجربته من خلال ما ازدحم به طريق حياته من صعوبات ومشاكل، فقرر التوجه إليه لعله يساعده بالمشورة وبالفعل رتب أمور زيارته والتقى به ودار بينهما هذا الحوار، حيث بدأ الحديث الرجل المسن قائلاً:
- بُنيّ، لا تحسب أن تجاربي وخبراتي المتواضعة تمنحني الثقة لأدعيّ مساعدتك، فأنت وأنا نجاهد النفس ولسان حالنا يردد بدعاء وتوسل إلى الله أن يحسن الخاتمة بمعنى أن تكون اللحظة الأخيرة من العمر بمحتوى يرضي الله عزَّ وجلَّ، ولا تنسى أننا في أمسّ الحاجة إلى إرادة فولاذية؛ فهي السلاح الذي تخشاه عيوبنا، وهي في الوقت نفسه مطلب يصعب تحقيقه أحياناً، فإن تُفعّل إرادتك لعمل ما أسهل من تفعيلها للقضاء على عادة أو سلوك، وما هو طارئ على أصل طبيعتك.
وتأكد أنك حين تعزم على تغيير أمر لا تريده فلا بد أن تدرك أن العزيمة لا تكفي فيلزمك تهيئة نفسك بحوافز من الاستعداد لفعل هذه العزيمة، وأن تحرص بصدق وإخلاص نحو ما هيأت له نفسك متفائلاً بالنتائج، على أن تنظر بعيداً بحثاً عن الآثار الجانبية لمثل هذه المجاهدة على نفسك، وأن تنظر من خلفك بعيداً للإحاطة والتعرف على بعض من العوائق إن وجدت، كالرواسب النفسية أو العقد السلبية أو أي نواقص في نفسك حتى تحقق نوعاً من التصالح معها عن طريق حوار خلفيته معرفة تغري بالقدرة، كما أن في عمق السؤال وإيجابيته ما يعين على جواب يحمل بين طياته بعضاً من دلائل التشخيص.
وبعد هذا كله فإنك مدعو كغيرك من البشر إلى قبول بعض النقص فلا أحد بقادر على عناصر الكمال، فلا بأس أن تعتبر التكامل قمة النجاح في حياة بني الإنسان، حيث الضعف والعجز والجهل، والآن دعني أسمع منك فلقد أطلت عليك.
قال الشاكي: أقول لك، أنا الشاكي والخصم أنا، فهل تراني قادراً على إنصاف نفسي من نفسي؟ أتمنى ذلك.
سيدي الشيخ، يزعجني الإحساس بعجزي عن الالتزام ببرنامج منتظم ومنظم، كما أن أدائي لما أعتبره واجباً يصاحبه بعض من الكسل، فينتج عنه ما يؤثر على أداء الواجب فضلاً عما يلحق بذلك من لوم مصدره الضمير بألم أتأثر به، وأخشى من قسوته، حيث أتصور أحياناً أن هذا الكسل لو كان يحس بما أنا عليه لاستحى وتلاشى كل أثر له، وتعلم أن مثل هذه الحالة قد تؤدي إلى بعض من الالتواء، وهذا مصدر آخر لما يزعجني، ويؤلم نفسي. هذا ما لدي، فما الذي تشير عليّ به، وتوجهني إليه؟
قال الشيخ: أشير عليك أن تعتبر هذا ضيفاً ثقيلاً، ومع ذلك عليك أن تحسن وفادته، وتكرم نزله، فالموضوع بكامله أنت ونفسك، وأمور النفس شائكة وتحتاج إلى كثير من الحذر والحرص، وأحياناً المراعاة.
قال الشاكي: وماذا بعد؟
أجاب الشيخ: وأن تحرص على إدارة حوار صريح مع نفسك لا ينال منها، ولكن يقوّم ما يزعجك منها، فتكريم نفسك مخزون لا ينضب لكرامتك.
الشاكي: وماذا بعد؟
الشيخ: أن تتحاشى الانزلاق في منعطفات الهدم دون أن تدري، فمهمتك أن تشيّد من البناء أقواه، وإن أردنا ما هو أعمق في مجال الحلول فعليك أن تواجه ما تعتبره كسلاً وفوضى بنشاط يتدرج معك وتتدرج معه لتصل لأفضل النتائج وفق المناسب من قدرة الحركة نحو هدف واضح.
الشاكي: وإن حاولت وواجهت الفشل فماذا ترى أني فاعل؟
فرد الشيخ: كما فهمت منك أنك تعاني من مشكلتين، وأن تتصدى لهما في وقت واحد لا يصل بك إلى أفضل النتائج، فلتؤجل ما يتعلق بالنظام والتنظيم وتنصرف إلى القضية الأخرى.
الشاكي: كيف وما هي الوسيلة؟
الشيخ: أظنك تعتقد مثلي بأن الخيال أهم من الفهم، فهو من يصيغ النظرية ليأتي بعده دور الفهم، ومن هذا المنطلق أرى أن تتخيل بعضاً من الواجبات وتلزم نفسك بأدائها، وأن تؤدي واجبها برغبة وقناعة، وتكرارها يجعل منها عادة، وميزة هذه المحاولة أن تخفف من حدة الصراع بينك وبين ما هو أساس لمعاناتك.
الشاكي: هل من مثال على ذلك حتى أستوعب ما تقول؟
الشيخ: الأمر سهل، تخيل أن شخصاً ممن تعز في حاجة لوقفة منك معه، اذهب إليه لتتلمس أحواله وتبدي استعدادك لموقف كريم حين تجد سبباً لذلك، وحين تبدأ أولى محاولاتك تلك وحرصاً على نجاح ما تحاول، ولمزيد من الرضاء عن نفسك استعن بالله وتوكل عليه، فلا حول ولا قوة إلا به.
وعليك أن تحسن الظن به عزَّ وجلَّ وكذلك بالمحاولة، وأن تلح في التوسل إلى ربك في طلب العون. إن محاكاة المشكلة بما يشبهها يمنحك فرصة أن تعالج المشكلة ولكن بأسلوب آخر لا يحمل كثيراً من المعاناة وتأنيب الضمير، فتلك الواجبات التي أنت من صممها بخيالك، ونفذ الخطوات العملية لها، وإذا نجحت في ذلك فستكون قد وضعت لبنة جديدة لأداء جديد يكمن فيه الحل، ولا تنس يا بني أن بني الإنسان تزدحم حياته بكثير من النواقص والضعف والعجز والجهل، فهوّن على نفسك بيقين أن ثياب غيرك ليست ناصعة البياض، وكما أن ثيابك تحمل من البقع ما تحمل فثياب غيرك تحمل مثلها أو أكثر أو أقل، وحينما نتصدى لحل بعض من مشاكل النفس بما تعكسه على السلوك فإن وسيلة ذلك أمل وصبر وإيمان راشد وإرادة قوية ووضوح في الرؤية، وهذا كله من مصادره صفاء الروح بأعصاب لا يشحنها ما لا نريد، وما هو عقبة على طريق الفهم والاستنتاج وما نجد أنه مشكلة وتحتاج إلى حل، وربما أن الظرف يسمح لنا فأذكرك بأن قادة أهم المعارك العسكرية حققوا الكثير من الانتصارات بأعصاب هادئة وعقول تعرف الهدف وتضع الخطط بصفاء يمكنها من ذلك.
الشاكي: سمعتُ منك مقدراً إخلاصك وأعدك أنني سأجرب، وشكراً.