عندما توفي المفكر العربي الكبير عبدالوهاب المسيري، حاولت إعادة قراءته، وكل فقيد يبرح مشاهد الفكر أو السياسة أو الأدب تحدوك المناسبة إلى تلمس ملامحه ومنطوياته الفكرية من خلال ما كتب أو ما كتب عنه..
.. فعلت ذلك عندما مات المفكر الوجودي عبدالرحمن بدوي، وكذلك العلامة السلفي أبو بكر عبدالله أبو زيد، وقراءة ما بعد الرحيل توفر أجواء حميمية تنزع ما في القلوب من مواقف، لأن أصحاب الفكر دخلوا في ذمة التاريخ، ولم يعد هناك إمكانية للدفاع عن أنفسهم، ثم إن ما ترك المفكر يعد ذكراً ثانياً يختلف عما هو عليه أثناء حياته.
والمسيري بوصفه متخصصاً ومهتماً بالفكر الصهيوني وتاريخ وتقلباته فإن قوله عن اليهودية قول لا يساورك فيه الشك، والتاريخ اليهودي مليء بالمفتريات، والإثم والعدوان، واليهود بإمكاناتهم المادية والإعلامية قد أضلوا كثيراً من الناس، وانتزعوا عطفهم وتأييدهم في كافة المحافل الدولية، وكل أقلية منبوذة أو متهمة تحاول أن تتوفر على مقومات البقاء والغلبة، والمسيري في كتابه (دفاع عن الإنسان) أنصف الإنسان اليهودي حين تحدث في الفصل السابع عن (العبقرية اليهودية) وعن الإنسان اليهودي المجرم، ولكنه لم يمضِ مع الدعاوى الكاذبة بتفوق الشعب المختار.
ولقد كانت هناك تداعيات مهمة تشكل حجر الزاوية للمشاهد المعاصرة وسوف أتناول منها ما يتعلق بقضيتين مهمتين وموهمتين:
- المحرقة.
- ومعاداة السامية.
إذ هما الشغل الشاغل لأساطين السياسة والضالعين في اللعب السياسية الكبرى.
وعادة المسيري حين يتناول مفردة مثيرة من المفردات السياسية أو الفكرية يرجع بها إلى جذورها السياسية والفكرية، ويحاول لملمة الشتات حول المفاهيم والرؤى، وكثير من المتابعين لا تعنيهم التفاصيل، إذ يرونها من الترادف أو من تعدد وجهات النظر، والمسيري الخبير بالحيل الصهيونية يربط كل رؤية بمرجعيتها، ولو أخذنا تعريفات ما يتعلق بدعوى إبادة اليهود على يد الألمان النازيين، لوجدنا لكل تعريف مقاصده وغاياته الخافية على كثير من المشتغلين بالشأن السياسي.
وإني لأزعم أنه مغرم بنحت المصطلحات التي تختصر المفاهيم وتجمل المعاني، فهو يصف الحدث بأنه تجاوز (الأيقنة) وهي تعني نزع أي ظاهرة من سياقها الإنساني والتاريخي والاجتماعي والثقافي بحيث تصبح مرجعية بذاتها، ويصير الحدث مطلقاً يتحتم قبوله بدون تساؤل، على شاكلة ما علم من الدين بالضرورة واليقين البرهاني، ومن ثم يكون سراً من الأسرار المقدمة كالقضاء والقدر وإبادة اليهود يُطلق عليه مصطلح (الهولوكوست) والكلمة يونانية تعني (حرق القربان بالكامل) كما أنها مصطلح ديني يهودي يشير إلى القربان الذي يُضحى به للرب، والمسيري يحاول اكتشاف سر اختيار هذا المصطلح ليطلق على دعوى إحراق الألمان لليهود، ويتوقع تشبيه الشعب اليهودي بالقربان وأنه أحرق لأنه أكثر الشعوب قداسة، لقد استوفى السياق الحضاري لدعوى الإبادة، ومن بعد أتبعها بسياقات ألمانية وغربية وسياسية واجتماعية.
كما تناول السياقين للحضارة الألمانية والغربية متكئاً على سيل من الفرضيات الممتعة والمحتملة، وخلص إلى نتائج تظل خارج المؤكد، ولكنها معطى تصور عميق لجذور الحضارة الغربية وطموحاتها، لقد وصم الحضارة الغربية بنزعة الإبادة الحسية والمعنوية على افتراض أن الغربي فوق الجميع، وأن الشعب اليهودي مجرد جماعة وظيفية، وهي التي تعرف في ضوء فائدتها ونفعها فهي (مادة استعمالية لا قداسة لها). والأخطر في تصوره القطع بأن التشكيل الحضاري الغربي يجعل الإبادة احتمالاً كافياً فيه، وليس مسألة عريضة، وبراعة المفكر في التقليل من قضية الإبادة وتأكيد النزعة الشريرة في الحضارة الغربية، وهو حين يكذب الدعوى أو بعضها لا يبرئ الحضارة الألمانية من نزعة الإبادة، التي حولت الشعب الألماني من مواطنين إلى جنود مقاتلين، لقد تعمق في كشف الأنساق وتبادلها للمواقع، وحقق ظاهرة النسق المادي بوصفه الأقوى تأثيراً على كل المسارات الفكرية والسياسية والاجتماعية.
وهو لكي يحقق النزعة الإبادية حاول استجلاء وضع اليهود في الحضارة الغربية، غير أنه وسع قاعدة التقصي إلى الحد الذي شمل المبادئ والمذاهب والتيارات والمفكرين، وبخاصة الذين أشاعوا الأفكار المعادية لليهود على أساس عرقي، كما أوغل في تجليه الفكر النازي ونزعاته المتعددة، والأهم في هذا السياق حديثه المقتضب عن السياق السياسي والاجتماعي الألماني اليهودي، ودور اليهود الاقتصادي وتمركزهم في المدن، ونظرة الألمان لهم المتمركزة حول الكيف لا الكم، إذ هم أقلية لا يؤثرون بقوة العدد، ولكنهم يهتمون بأقوى مؤثرين: المال والإعلام، وفوق ذلك فهم الأحرص على تبني المذاهب وتسخير الإعلام لبث الدعاية لها، وإن كانت فرضيات لا تصح، وليس أدل على ذلك من نظرية (دارون) ورؤية (ماركس) الاقتصادية، ولقد تقصى المسيري هذا الجانب حين تحدث عن العبقرية اليهودية، وهي عبقرية وضعت للإفساد وتمكين اليهود من المواقع المهمة في المشاهد الثقافية والاقتصادية والإعلامية، وسيطرتهم على تلك المشاهد يجعل السياسة الأهم قيد أيديهم. ولن نتقصى ما قيل عن دعوى المحرقة وما كتب عنها سلباً أو إيجاباً فذلك يندبنا عن التداعيات المتعلقة بفكر المسيري ورؤيته الموضوعية والمعرفية.
أما الحديث عن السامية تحديث ذو شعب وبخاصة بعدما ادعت اليهودية الأثرة بها، وبعدما استجاب البيت الأبيض لدعواها الغرائبية، وصدور قانون 2004م لمتابعة معاداة السامية على مستوى العالم، وهو قانون أقل ما يوصف به أنه تعسفي، و(بوش الابن) على مشارف الانتخاب لولاية ثانية أراد أن يتملق اليهود ويكسب أصواتهم وتأييدهم لأنهم المسيطرون على المال والإعلام، وبدون تأييدهم سيكون عرضة للإخفاق، وذلك دأب كل المرشحين، والقانون التعسفي الذي اتخذه الرئيس الأمريكي أخذ عليه أحد المفكرين ستاً وعشرين ملاحظة قانونية ودينية وتاريخية وإنسانية وسياسية.
ولأنني سأتناول لعبة السامية بحديث مفصل فقد فضلت الاكتفاء بالإشارة، وإشكالية اللعبة أنها أثرت على الرأي العام وامتدت إلى المدونات والموسوعات، وظنها البعض وقفاً على اليهود، مع أن اليهود جزء من السامية والعداء لهم ليس له أي ارتباط بالسامية.
لقد كانت للمسيري صولات وجولات في فجاج الفكر والأدب والسياسة، وموضوعيته ومنهجيته ومعرفيته أعطت فكره مزيداً من التوازن وأجهدت خصومه وبخاصة الصهيونية التي طاردته، وقد يكون له كل الدور في وفاته، إن المشهد السياسي والفكري أحوج ما يكون إلى قراءة متأنية لرؤية المسيري، وأعماله المتعددة المجالات والمصادر، وهو إذ يعبر المشهد بكل هذه الإضافات بحاجة إلى أقلام نافذة تكرس رؤيته وتربطه بالجيل المنبت من جذوره بفعل التزييف الفكري والإعلامي.