مشهد أكثر من 180 فتحاوياً من عائلة (حلس)، هاربين من قوات حركة (حماس) في غزة، قبل أسابيع قليلة، وهم شبه عراة، على معبر ناحال عوز الإسرائيلي، مؤذ لكل فلسطيني ولكل عربي ومسلم. فهؤلاء الهاربون فضلوا الاحتماء بالإسرائيلي من إخوانهم في الدم والعقيدة. غير أن ذلك لم يمنع الجنود الإسرائيليين، الذين ينظرون لكل فلسطيني، باعتباره إرهابياً محتملاً،
من الإمعان في إذلال أولئك الهاربين، بأن جردوهم من ملابسهم، تحوطاً من أن يكون أحدهم محملاً بالمتفجرات.
هروب فلسطيني من أخيه واحتمائه بالإسرائيلي دليل على فقدان البوصلة التي تحدد الاتجاهات الصحيحة، وتؤشر لمن هو العدو ومن هو الصديق.. ودليل على أن الوضع الفلسطيني قد دخل مرحلة الفتنة التي تجعل الحليم حيران، وتفقد الإنسان الحس السليم في معرفة المعروف وإنكار المنكر، وتمييز الحق من الباطل.
قد يجادل المتعاطفون مع حركة حماس بأن جزائريين وفيتناميين قد هربوا من قبل من إخوانهم واحتموا بمعسكر العدو، ولم يمنع ذلك من أن تنتصر ثورة التحرير في الجزائر ولا في فيتنام، كما انتصرت حركات تحرر أخرى في بلاد كثيرة في العالم، ظهر من أهلها من يخونها، ومن يفضل معسكر العدو عليها.
لكن الحالة الفلسطينية مخالفة في وجوه كثيرة لسائر الأمثلة السابقة. فحركة (فتح) هي التي بدأت الكفاح الفلسطيني، وسجل رجالها تاريخا مجيدا في المقاومة والفداء والبطولة، وأن ينتهي عناصر منها إلى الاحتماء من إخوان لهم في الوطن بالعدو أمر محزن ومخز ومؤذ وجارح وكاسر للقلب.
نجحت حركة (حماس) في مواجهة تيار الانفلات الأمني في (فتح) حين أقدمت العام الماضي على الحسم العسكري في قطاع غزة. لكن الحركة تحصد اليوم الثمار المرة لذلك النجاح الميداني. صحيح أن ما حصل قبل أكثر من عام بقليل قد مكن حركة (حماس) من التفرد بحكم القطاع، لكن أي فائدة من وراء ذلك إذا كانت الصورة السياسية النقية للحركة قد أخذت تتشوه مع كل يوم جديد، ومع كل انتصار عسكري جديد تحققه على بقايا (فتح) في غزة المكلومة المحاصرة.
اكتسبت (حماس) قيمتها تاريخيا من كونها كانت بمثابة الضمير في الساحة الفلسطينية والعربية. إذ كان صوت (حماس) وخاصة على عهد الشهيد المجاهد الشيخ أحمد ياسين صوت الحق والواجب والضمير الحي المتيقظ.. كانت (حماس) بخطابها وممارستها الجهادية الرد المناسب على منطق التفريط في الحقوق من الجانب الفلسطيني، وعلى منطق الصلف والعنجهية والتكبر من الجانب الصهيوني.
وكانت البوصلة واضحة شديدة الوضوح لدى الشيخ الشهيد حين كان يرد على عمليات الاعتقال والتنكيل التي يتعرض لها عناصر (حماس) من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية بأن الحركة قد اختارت منطق هابيل في مواجهة أخيه قابيل: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (28) سورة المائدة.
بعد استشهاد الشيخ ياسين جرت في النهر مياه كثيرة.. شاركت (حماس) في انتخابات يناير 2006، وفازت فيها فوزا كاسحا، لعلها هي ذاتها لم تتوقعه، وشكلت حكومتها منفردة، ثم شكلت مع فتح وفصائل أخرى حكومة وحدة وطنية، لم تعمر طويلاً.. وبدأ التيار المهيمن على فتح، وهو الذي قبل في البداية نتائج الانتخابات ولكن على مضض، يكيد لحماس، ويحاول استرجاع السلطة منها ولو بالتحالف مع الشيطان.. وجرى ما جرى من محاولات لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية بالقوة، عبر نشر الفوضى والفلتان الأمني، لكن أجهزة (حماس) الأمنية والعسكرية كانت أسرع، فحسمت الأمر لصالحها بالقوة.
مع ذلك الحسم بدأ تآمر فلسطيني وغربي، وخاصة أمريكي وإسرائيلي، واضح ومكشوف، لإسقاط حكومة (حماس) في غزة، عبر الحصار والتجويع والتهديد بالاجتياح الإسرائيلي. لكن ذلك الحصار وتلك المؤامرات فشلت جميعها في تحقيق الهدف المنشود منها.. وثبتت حكومة حماس واقفة على قدميها، فعاد التآمر الأمني من جديد.. وتم بأيد محسوبة على فتح اغتيال قيادات مهمة في كتائب القسام، عجز الاحتلال عن قتلهم.. هنا لجأت (حماس) مجددا إلى قوة عضلاتها.. وليتها لم تفعل.
بمنطق الصراع السياسي على السلطة كل ما تقوم به (حماس) في غزة مفهوم ومبرر. فمن وجهة نظر قادة الحركة فإن كل ما يقومون به هو وضع نهاية لحالة من التسيب والفلتان الأمني، أو عمل أمني لاعتقال متورطين في تفجيرات، وحماية لمقاومين، وتدعيم لسلطة تستهدفها إسرائيل بسائر أدوات الاستئصال، وهذا صحيح. لكن مشروع حماس أكبر من مجرد سلطة على بضع مئات من الكيلومترات المربعة، يستخدم السلاح لحمايتها. حماس حركة مقاومة أولا وأخيرا، وقد أخطأت حين انخرطت في لعبة السلطة قبل الأوان.
يتألم المرء لما يكابده أهل غزة من مؤامرات وحصار ظالم من القريب قبل البعيد، ويشفق على حماس لما تواجهه من تحد وامتحان تنوء بثقله الجبال، ولكنه لا يملك إلا أن يأسى لسلوكها وفعلها، ولجوئها المستمر لعضلاتها لحسم ما يستجد من توترات مع حركة (فتح).. ففي مثل هذه الظروف الفلسطينية المأساوية أن تكون عبد الله المقتول خير من أن تكون عبد الله القاتل.. وعلى هذا المنهج سار الشيخ الشهيد أحمد ياسين حتى لقي الله.
كاتب صحفي من تونس