كان اليهود في الأندلس من ضحايا الحملات التطهيرية ولكل الأديان والقوميات غير الإفرنجية والتي لا تنتمي للكنيسة الكاثوليكية وقدموا مع المسلمين لمحاكم التفتيش التي أقامها قادة الغزو الإفرنجي على الخلافة الإسلامية في الأندلس وهرب العدد الكبير من اليهود إثر سقوط الأندلس عام 1492م خشية من مذابح الجيوش الإفرنجية المكتسحة لكل المسلمين ومعهم اليهود أمام بطشهم الحاقد.
ويقدر آنذاك عدد اليهود الذين نجو من مذابج الإفرنج بثلاثة آلاف يهودي استقبلتهم الخلافة العثمانية بالترحيب وكفلت لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية وأقاموا لهم عدداً من أماكن العبادة اليهودية (الكنيست) منتشرة لحد الآن في مدينة إسطنبول.
قد يتساءل قارئ العزيز عن سبب اختيار يهود الأندلس للجوء للخلافة العثمانية فهناك عدة أسباب أهمها اثنان أولهما تعايش اليهود مع المسلمين في دولة الأندلس وتمتعهم بكل حقوقهم الإنسانية بل كانت طائفة اليهود من أغنى المجتمع الأندلسي لاحتكارهم صناعة وتجارة الذهب والفضة والمجوهرات الثمينة والثاني أن الخلافة الإسلامية في اسطنبول عاش فيها آلاف اليهود المهجرين قسراً من حكام الإمبراطورية في روما اثر تهديد الإمبراطور البيزنطي لكل اليهود بالدخول إلى المسيحية أو رميهم خارج الإمبراطورية وتوجهوا آنذاك إلى المغرب واسطنبول وعاشوا مع المسلمين متمتعين بحقوقهم الإنسانية والدينية وأصبحوا من أكبر تجار اسطنبول وأغنى طبقات المجتمع العثماني وأصبحت هذه الطائفة اليهودية البيزنطية عامل جذب لكل اليهود الهاربين من فتك الجيوش الإفرنجية وخطر محاكم التفتيش التي أبادت الطائفة اليهودية في الأندلس والتي سلب كل ممتلكاتهم وهدمت معابدهم وتحول عدد قليل منهم إلى التعميد المسيحي فنجو بأنفسهم وحفظوا بعض ممتلكاتهم وقد هرب من تمسك بيهوديته وفضل الموت يهودياً نحو مركز الخلافة الإسلامية في اسطنبول. وقد رحب بقدومهم السلطان بايزيد الثاني ودعاهم إلى الإقامة في كل أرجاء السلطنة العثمانية ومنحهم حق المواطنة وتمكينهم من امتلاك العقار والأراضي وممارسة الصناعة والتجارة وقال كلمته المشهورة عند افتتاحه لمصنع الأسلحة والمدافع العثمانية والتي أسسها اليهود المهاجرين من الأندلس (اسبانيا والبرتغال) قائلاً إني أتعجب ممن صفون الملك فرديناند بأنه أذكى ملوك الإفرنج فلو كان ذكياً لما أجبر هؤلاء اليهود الأذكياء من ترك بلاده وتقوية بلاد المسلمين العثمانية وتؤكد الوثائق التاريخية التي بحثته في تاريخ اليهود في اسطنبول أنهم تركوا كل ثرواتهم وأملاكهم خلفهم في غرناطة بعد سقوطها تحت خيول القوات الإفرنجية وجلبوا معهم العلم والخبرة الصناعية لإنتاج الأسلحة وطوروا المدافع وتمكنوا من جعل البندقية التقليدية المحشوة بالبارود أن تخزن من البارود لأكثر من إطلاقة علاوة على سيطرتهم على تجارة الذهب والفضة.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني وهو من أكثر السلاطين العثمانيين عدالة فتطورت الخلافة الإسلامية كثيراً حيث شهدت تقدماً كبيراً في مجال الصناعة والتجارة مع دول أوروبا آنذاك وكان مرتكز هذا التطور والنجاح الطائفة اليهودية في اسطنبول حيث كان معظمهم يجيد اللغات الأوروبية وميلهم الفطري للتجارة والصناعة وخبرتهم الواسعة في شؤون المال وصناعة الذهب والفضة والأحجار الكريمة. واعتبر عصر الخليفة سليمان القانوني بالعصر الذهبي للخلافة العثمانية وبرز من الجالية اليهودية (جوزف ناسي) والذي تحول اسمه إلى ياسين ناسي وهو من مواليد البرتغال وتدرج في قربه من قصر توب كابي مقر السلطنة العثمانية حتى أصبح مستشار السلطان ويتولى الأمور السرية للسلطنة وله عدة عيون في أوروبا والشرق العربي! ولكن الرغبة في الاستيلاء على أرض فلسطين وتكوين دولة إسرائيل وكما يدعون بأرض الميعاد دفعتهم إلى النكث في وعودهم والتزاماتهم نحو الخلافة العثمانية التي حمتهم من خطر الإبادة الإفرنجية وأسسوا أول حركاتهم السرية تحت مسمى (حركة التحرير من أجل الأرض الموعودة) والتي نشطت في عهد السلطان مراد الثالث وكان ضعيفاً فاستغل اليهود هذا الارتخاء الأمني بالدعوة إلى هجرة اليهود إلى أرض فلسطين وتشويقهم لذلك بتهريب أموالهم وبالذات الذهب والفضة والمجوهرات مع العوائل المهاجرة وحين تمكن السلطات الأمنية بالإمساك ببعضهم علم السلطان مراد الثالث بذلك وصرخ بوجه رئيس حاخامات اليهود في اسطنبول قائلاً: (ما الذي يحصل لو قطعت رؤوس جميع هؤلاء اليهود المجرمين ومعهم رأسك هذه).
وقابل اليهود المهاجرين من الأندلس كرم الدولة الإسلامية العثمانية بمنحهم حرية العبادة وتشكيل التنظيمات الإنسانية الخيرية للطائفة اليهودية وحق التعيين في الوظائف الإدارية والمالية بنكرانهم لهذا التعامل الإنساني بعملهم السري بتشكيل خلايا سرية تتخذ من دور العبادة اليهودية مقرات لها واتخذوا اللغة الاسبانية التي يجيدونها لغة التخاطب بينهم إمعاناً بالسرية والكتمان على على مشاريعهم الخيانية من أجل الاستيلاء على التراب الفلسطيني وتهيئة المناخ الملائم لذلك بالعمل المخطط السري بين أفراد كتلة التحرير اليهودي بجمع الأموال وترتيب هجرة منظمة بأفواج إلى فلسطين لتجميع عدد كبير من اليهود هناك.
ومع بداية القرن التاسع عشر برزت الحركة الصهيونية والتي تهدف لإعادة الأرض المقدسة اليهودية في فلسطين وتجميع يهود العالم فيها ومنحهم كما يزعمون الأرض المعهودة إلا أن الوصول إلى هدفهم العدواني بالاستيلاء على أرض فلسطين كان يبرر لهم أي وسيلة من النكث بالعهد ونسيان المعروف العثماني بمنحهم الحرية بعد المطاردة الاسبانية لهم فقد حاول عدد مقرب من اليهود بإغراء السلطان عبد الحميد الثاني بمنحهم السلطة على فلسطين لإقامة دولتهم عرى ترابها وتعهدوا بتسديد كافة ديون السلطنة العثمانية والتي كانت بعدة ملايين من الجنيهات الذهبية إلا أن السلطان عبد الحميد طرد هرتزل الزعيم الصهيوني وأخبره أن فلسطين لها أهلها وهي جزء من جسمي لا أستطيع أن أقتطعه لكم وأشار إلى عينه ولن يساوي مال العالم كله شبر من أرض فلسطين عندنا وقد عبر الصهانية عن حقدهم للسلطان عبد الحميد بالاشتراك مع جمعية الاتحاد والترقي على خلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 وأصبح لهم نفوذ أو سلطة واسعة في حكومة الاتحاديين المكونة من (الثلاثي أنور - طلعت - جمال السفاح) وأخذوا يقدمون خدمات استخباراتية لدول الحلفاء أيضاً من أجل إنهاء حياة الرجل المريض الاسم الذي أطلقوه على الخلافة الإسلامية العثمانية وكانوا الرمح النافذ في صدر الدولة الإسلامية التي قدمت لهم الأمن والسلام والحرية!
محلل إعلامي
عضو هيئة الصحفيين السعوديين
جمعية الاقتصاد السعودية