إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا جدي لمحزونون..
صمت وذهول.. لم أصدق ما سمعت..
لا أعلم أنها حقيقة أو لا أريد أن تكون حقيقة، عندما سمعت أنك قد فارقت الحياة..
كنت خائفة من سماعها لم أصدقهم، بل إنني كنت مترددة بالاتصال بوالدي خشية أن أصدم بالخبر ولكنني اتصلت لعل الأمر لا يكون صحيحاً.
فرد علي بصوته الممزوج بالبكاء، فسألته عما حدث.. لم تكن إجابته إلا الدعاء له بالمغفرة والرحمة.
كنت أتمنى أن لا يقول لي شيئاً، ولكن رد علي صوته المجهش بالبكاء فأيقنت هنا أنها الحقيقة المرة..
أن تفارق أعز ما تملك في هذه الدنيا..
نعم.. كلنا نسير في نفس الطريق وسيحل بنا نفس المصير يوم من الأيام.. ولكن لم أتوقع أن الفراق سيكون بهذه السرعة.. آه ما أسرع هذه الحياة وأخدعها.
نعم.. أخذك الموت.. ونزع منا عمود البيت الكبير.. البيت الذي كنا نقصده لرؤيتك ورؤية جدتي الغالية حفظها الله وأطال في عمرها.
أعلم أنك ما زلت معنا.. وروحك تحسن بنا.. ما زلت أسمع صوتك وتوجيهاتك لنا.. كنت أتمنى أنك ترى حفيد ابنك (عبدالعزيز) الذي ولد وأنت تصارع الموت.
برحيلك يا والدي تيتمنا وأظلمت الدنيا في وجوهنا فقدنا من كنا نستند إليه ونأخذ قوتنا منه ونعتز به (وما زلنا نعتز بك)، أوصدت الأبواب أمامنا، فقدنا ثقتنا بالأيام فلا نعلم من سيلحق بك أولا.
عرف عنك يا والدي بشهادة الجميع عطفك وحنانك ولطفك وتواضعك مع الصغير قبل الكبير.
فقد كنت متواضعا وبتواضعك اكتسب منك أولادك واكتسبنا نحن الأحفاد صفات كثيرة، وكنت تحثنا على صلة الرحم والتسامح والعطاء وحب الآخرين.
عندما نخطئ كانت توجيهاتك نبراساً لنا للالتزام بالآداب الشرعية وتعرض هذه التوجيهات بأسلوب رائع ممزوج بروح المداعبة لتعلمنا أخطاءنا من غير توبيخ أو إحراج لنا.
فقدت برحيلك جلستي معك للنقاش في أمر يشكل حيرة لي لتقنعني برأيك الصائب بأسلوب منطقي رائع.
فقدت برحيلك أمثالك القديمة وتلك الكلمات التي كنت تتعمد استحضارها من مخزون ذاكرة التراث والتي لا أعرف معناها وتقولها مداعباً ومختبراً لي ولأبنائك وأحفادك لترسخ في عقولنا تراثنا وأصالتنا وكم كنت حريصاً على أن تبقي الأجيال مرتبطة بموروثها الضاربة جذوره في عمق التاريخ.
لقد كانت بساطتك هي رمز عظمتك وكان زهدك هو مصدر إقبال الناس عليك وتوقيرهم لك.
لم تأبه يوماً بمظاهر الحياة وزخرفها بل كنت عازفا عنها مستعداً للحياة الحقيقية والراحة الأبدية.
لم تصارع كغيرك بحثاً عن الثروة والمال وكنت قنوعاً بما يسترك ويكفي بمتطلباتك وواجباتك الاجتماعية.
كانت يدك عطاء متصلاً سراً أكثر منه جهراً فكم اكتشفنا بعد وفاتك من حالات وأسر ومحاويج كنت ترعاهم لا يعلم ذلك إلا الله.
كنت وقافاً عند حدود الله حريصاً على براءة الذمة حتى في أمور يعدها الناس تافهة، ألست الذي طلبت في مرض موتك أوراقاً لتكتب وتثبت فيها حقوقاً وإن كان بعضها يسيراً، ولكن هذا دليل على حسك المرهف وشفافيتك وصدقك مع ربك ثم مع نفسك ومع الناس.
ألم تكن الظلال الوارفة لأسرتك الصغيرة والكبيرة وأهلك ومعارفك وكل من أتاك، ألم تكن مجالسك مفتوحة وعامرة دائما بأهل الحاجات ورجال العلم والفضل منذ نعومة أظفارك وحيثما حللت في أي مدينة، كانت هذه صفتك من غير مظاهر زائفة وبهرجة براقة لأنها تعكس روحك الشفافة الصادقة.
كانت مجالسك ترفع الرأس لا يحضرها إلا كل طيب ولا يدور فيها إلا كل رائع وجميل من القول والفعل (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) كما كنت الجليس الصالح وكان جلساؤك الصالحون.
رحمك الله يا أبي.. وأعاننا على فراقك وعزاؤنا في والدتنا الجليلة زوجتك الصابرة المحتسبة المؤمنة رفيقة دربك والتي كابدت معك في معركة الحياة ومضيت وتركتها بعد أن أديت الأمانة، وورثت رجالا من أروع الرجال.
نعم عزاؤنا فيك هؤلاء الرجال والدي وأعمامي فهم إنجازك الأعظم في هذه الحياة وهم ثمرة عملك الصالح.
لقد استثمرت في بناء الرجال وبناء الإنسان أعظم من بناء ناطحات السحاب والمصانع والمدن.
عزاؤنا كذلك في السيل الجارف من المعزين رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً من يعرفك ومن لا يعرفك من داخل المملكة وخارجها، أناسٌ لا نعرفهم ولا نتوقع يوماً أننا سنلقاهم أتونا معزين مترحمين دامعة عيونهم لاهجة ألسنتهم بالدعاء.
ضاقت الأمكنة أياماً ومنهم من لم يستطع الدخول إلا بعد أيام كل هذا يعطينا نوعا من السلوى بفراقك فالناس شهود الله في الأرض وإلا فالخطب عظيم والمصاب جلل والجرح كبير، ولن ننساك أبدا يا أبي.
رحمك الله وجعل في خلفك والدي توفيق وأعمامي وأحفادك الخير والبركة ليسيروا على دربك ويواصلوا رسالتك فهم الأمل لنا بعد الله في فقدك.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.