Al Jazirah NewsPaper Friday  15/08/2008 G Issue 13105
الجمعة 14 شعبان 1429   العدد  13105
أبي.. شمس حياتي
سلوى محمود طيبة

وكتم الجميع أنفاسه.. وهتفت أمي مكررة (اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}).. وكأن أسمعها لأول مرة.. كيف لا؟؟ والمصاب جلل فقد غابت شمس من شموس حياتنا بل غابت شمس من شموس الوطن.. غاب عن دنيانا علم من أعلام هذا البلد.. أبي الحبيب.. وإنه ليحتار العقل ويعجز القلم أمام حقيقة الموت.. سبحانك يا إلهي نعلم علم اليقين بحبك لخلقك، ونؤمن حق الإيمان أن يوم موت المؤمن الحق هو خير يوم يمر به.. ومع ذلك تتفطر قلوبنا.. وترتعد فرائصنا.. وتذرف دموعنا وأحيانا تتجمد عند موت حبيب.. هل هي أنانية الإنسان؟.

أبي حبيبي إني حائرة عن ماذا أتحدث.. فقد كنت رحمك الله متعدد المناقب.. وقد تحدث الكثير عن بعض من مناقبك وأخلاقك.. تحدثوا عن أمانتك، نزاهتك، كرمك، وعن حبك لليتامى وكل ما هو خير، وقد يكونوا قد أغفلوا وجوها لا تقصيرا منهم فجزى الله الجميع خيراً.. أما أنا فأحب هنا أن أتحدث عن بعض من مناقبك التي لم تذكر، كان أبي حيا.. لم أسمع من أبي ما يؤذي مسامعنا لكلمة بذيئة لا في التعامل معنا أو من غيرنا، كان وجهه يتمعر إذا سمع كلمة مؤذية ويقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله).. أذكر دائما أن أبي يحب تغطية كتفيه عند العمرة أو الحج ولا يحب -حياء منه- كشف عضده الأيمن إلا بما يحقق السنة ولفترة بسيطة، منذ عشر سنوات اضطررت لعمل عملية جراحية وكان والدي مسافراً وعندما عاد كنت قد خرجت من المستشفى وقمنا جميعا لاستقباله شعرت أنه كان يريد أن يستبق من كان أمامي ليطمئن علي، وكانت الوالدة ظنا منه أنها أنا -وكانت هذه أول مرة نرى نحن أبنائه ذلك- وإذا بحمرة الخجل تتسابق إلى وجنتي كلا من الوالدة والوالد حياء منا، وابتسمنا نحن الأبناء.. هكذا كان أبي حييا، وكنت دائما أقول لنفسي وأنا طفلة صغيرة أن أبي من المؤكد يشبه عثمان بن عفان رضي الله عنه في حيائه.

كنت دائماً تحب أن تدخل الفرح والسرور على من حولك، أخبرني زوجي عدنان طيبة أنه عندما كان صغيراً يتذكر أبي دائما عندما كان يأتيهم زائراً في مكة المكرمة حاملا معه خمس أو ست سمكات -وقد كان السمك نادراً في مكة- وكان يسعد برؤيتهم سعداء، وكذلك أتذكره عندما كان يعود من سفره يفتح حقائبه ويخرج هداياه وعيناه ترقص فرحا، وكانت هدايا دائما منتقاة، تعليمية مفيدة وغير متوفرة في المملكة، كان دائما عندما يأتي لزيارتي في جدة يقول لأولادي سأقوم بعمل مشوار بسيط ثم يعود محملا بأنواع من (الآيس كريم) التي يعرف أنهم يحبونها ويفضلونها ويجلس ليستمتع وإياهم بأكلها.

الحلم منقب آخر من مناقبك الجمة، أذكرك مرة كنا أنا وأمي -قبل حصولها على الجنسية السعودية- مسافرين إلى جدي لأمي في الشارقة عن طريق الظهران، وعندما وصلنا إلى الظهران اكتشفت الجوازات أن جواز أمي ليس فيه تأشيرة، خروج وعودة، وكان سكرتيرك قد نسي أن يخرج التأشيرة، وعليه اضطررنا إلى العودة إلى الرياض، فما كان جوابك سوى ترديد الحوقلة دون أن تفقد أعصابك وانتهى الموضوع عند ذلك، ولم أسمع أي كلام ينم عن غضب.. وإذا قام أحد أحفادك بعمل ما لا تحب كنت فقط تقول له (يا ولديي) -مع مد بسيط في الياء- ويحب أولادي تقليدك بهذه الكلمة وكأنهم يذكروننا بحلمك، كنت تعجز كل من حولك بحلمك.. مع قدرتك على غير ذلك.

أمي حبيبتي كنت -في مصابنا هذا- درساً ومثلا لنا في الإيمان والصبر والاحتساب كما أنت دائما في جميع دروس الحياة مثلا، فما أعظمك من أم وما أعظمك من زوجة، وصدق من قال أن (وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة) فقد كانت حياتكما معاً كقصيدة رائعة ألفتماها سوياً فجزاك الله عنا وعن والدنا الخير كله.

أبي حبيبي كنت ترشف رشفات من بحور الخير المختلفة ما استطعت قاصدا وجهه الكريم، وكأنك تريد أن تكون مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه تدخل من جميع أبواب الجنة، فيا رب السماوات والأرض أعطه مبتغاه، وارحمه رحمة الأبرار وأكرمه كرم الأخيار فإنه كان رحيماً كريماً بكل من حوله.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد