شغلتني (قصيدة النثر)، حتى لم أجد متسعاً من الجهد والوقت للاشتغال فيما سواها من فنون القول المحدثة، وكنت أقول بأنه يمكن أن يكون هذا اللون من السرد أي شيء من فنون القول المتميز والجذاب والمبهج في الكثير من أحواله، ولكنه لن يكون من الشعر في شيء..
.. ولأن المخالفين لي من أهل الفن وخاصته ليسوا أدعياء ولا متطفلين، ولقولهم أثره في المشهد، فقد حدوني إلى تقصي ما قيل عن القصيدة المعاصرة بكل أشكالها، وتحولاتها الدلالية والفنية، والتحرف للتزود من الآراء والنظريات والمصطلحات، ما تقدم منها وما تأخر، حتى (زنبور) ولد (حسان بن ثابت)، الذي أقسم أنه قال الشعر حين سجع ووازن، وحتى وصْفِ المشركين للرسول بأنه شاعر، لما جاء به من كلام لا يكون مجمله على شاكلة الشعر.
هذا الكم من الدراسات والمترجمات، جعلتني أشقى في الانتقاء، لا في البحث فيما بين يدي من كتب وما أنطوي عليه من معهود ذهني، وذلك كله فوق ما يتطلبه بحث مقتضب كهذا الذي نقدمه عن مكامن الجماليات، وعلى الرغم من التراكم المعرفي، أحسب أننا بأمس الحاجة إلى مزيد من القول، والتحسس عما يجد من آراء، فالمشاهد النقدية والإبداعية يلدن كل جديد، وكل يوم لها شأن آخر، قد يكون مناقضاً لما سلف أو مرهصاً لما هو آت.
ومشهد يتلقى ركبان المستجدات دون تقدير أو مراجعة، لا يقر له قرار، وأشقى النقاد والأدباء من يجوسون خلاله، وكل أجواء أدبية لا ينبعث منها طقسها، تكون معرَّضة للتحول السريع والمفاجئ، وقدَرُ مشاهدنا أنها مرتبطة بأجواء الغير تتغير بتغيرها، وحسبي أنني مرتهن لهذه التقلبات، وكلما فاضت رفوف مكتبتي من قضية، فوجئت بتجشؤات لها دوي كدوي الرعد، محدثة فراغاً مخيفاً، يحملني على التزود من المستجد، وهكذا تكون قضايا الأدب الحديث وظواهره، كما نجوى المحبين كلام الليل يمحوه النهار، ومن ظن الثبات والأناة فلينظر إلى ما خلّفه النقد الحديث وراء ظهره من قضايا وظواهر ومذاهب وتيارات، وما تعالق معه من أشباه ونظائر، ليعلم علم اليقين أن النقد كما الحداثة وبعدياتها لا تصبر على رؤية واحدة، ولعبة (البعديات) أعطت المتذوقين مجالاً أوسع لتبرير التحولات السريعة وغير الواعية.
والخلوص مما سلف لا يكفي فيه رفع الملفات إلى حين، وإنما يقضى عليه فيموت، ومقولات (موت المؤلف) و(موت النحو) و(موت النقد الأدبي)، حولت الحركة النقدية إلى تظاهرة جنائزية، ما كنا حفيين بها، وكل ما يعانيه الراصد الواعي والمتابع الحصيف من تقلبات مشقية ومربكة قد يعوضه عنها التنوع في المكتسب المعرفي، وتزود كل طائفة بما يساعدها على التصدي والتحدي والصمود، غير أن الجهد والوقت والمال في نزيف مستمر، فالناقد الذي يفرض على نفسه الحضور يتطلب مزيداً من نزيف المثمنات.
والمشتغلون في مشاهد الأدب والنقد كما الصعاليك الذين تتهاداهم التنائف، إذ لا يحطون من سفر إلا إلى سفر، ولو أن التنقل يتم بعد تحرير المسائل وتأصيل المفاهيم لما كان في ذلك من بأس، ولكنه انتقال يفاجئ المرء، وهو في منتصف الطريق، ذلكم الشقاء المستطير قدر النقاد المحدثين، ولكنه شقاء محبب إلى الذين يتلذذون بالاكتشاف والسير في المفازات، فالاختلاف لا يلغي قيمة المختلف معه، والنهي في الشريعة عن الاختلاف المؤدي إلى التفرق.
والحديث عن القصيدة المعاصرة وجمالياتها، إضافة نقدية، أرجو ألا تكون من القول المعاد، فالمتلقي بحاجة إلى استعادة الاكتشاف لا إلى الظواهر، ولا سيما أنه مشروع يجنح إلى التطبيق على الإبداع الشعري في (المملكة العربية السعودية)، وليس عاماً يستشرف الواقع الأدبي في المشاهد كلها، والدراسات الحصرية قد تحد من الانطلاقات في الآفاق الرحبة.
وحري بمشهدنا أن يستجيب للتحولات فإما أن نركب أمواجها، وإما أن نصُدَّ طوفانها، فما كان التسلل لواذاً منجياً ولا عاصماً من ماء المعارف المتدفق كالطوفان، على الرغم من أنه لم يعد الاهتمام بالموضوعية والمنهجية شأن المشهد النقدي المعاصر، فالدارسون للظواهر النقدية والأعمال الإبداعية لا يقيدون أنفسهم بالعناوين التي يختارونها بمحض إراداتهم، وكلما استحوذ التعالق غير الواعي على الناقد ندَّ به عن متن القضايا، بحيث لا يتمكن من تحرير قضاياه التي تشغله، وخصوصية الذوق والانطباع لا تبيح التمرد على الضوابط والسوائد، إن هناك أنساقاً لغوية واجتماعية وثقافية تفرض نفسها في كل مشهد يعي أهله ما يقولون.
والأدب بكل فنونه مرتهن لحضارة الانتماء، التي هي بدورها ترتهن مجمل الأنساق، وحتمية التجديد وضرورته لا تعني الانقطاع ولا نسف جسور التواصل، وكم هو الفرق بين الرحيل بالتراث والرحيل إليه، وبين الدخول في المعمار لتمكينه من التعصرن واقتراف هدمه لإقامة معمار جديد، والتخلي عن الموروث ليس من محققات التجديد، وإنما هو مؤشر استجابة بلهاء لمستجد حضارة أخرى، إن هناك تراثاً إنسانياً وتراثاً حضارياً، ومحطات زمانية، تتجدد فيها كل الحضارات، والتجديد لا يعني الاستبدال المغاير، وإنما هو في النظام المتوازن بين محققات الحضارة ومؤهلات التعايش والتكافؤ والندية، وإشكالية الأدب الحديث في فهم الأشياء على غير ما هي عليه.
فالتجديد مصطلح تتعدد مفاهيمه بتعدد التصورات، وهو كأي ظاهرة له طرفان ووسط، فالذين ضيقوا الخناق فوتوا على أمتهم فرصة التفاعل الواعي، والذين أطلقوا العنان فوتوا على أمتهم فرصة التحقق الذاتي، والوسطيون وهم الغرباء عرفوا ضرورة التجديد وحتميته وحق الوجود الكريم.
والعملية الإبداعية في الراهن لم تكن عفوية ولا منطلقة من الداخل، بحيث تأتي الأعمال حرة طليقة تصنعها الحاجة، ومع كل هذه المخاضات الموجعة يظل المشهد بحاجة إلى من يرشِّد مساره، ويقيه التعثر بالضوابط والتحفظات غير اللازمة.
والمناهج النقدية لم تنج من النظريات المادية، بل وقعت تحت تأثيرها، واعتمدت فرضياتها على أنها قضايا مسلمة، وإذ لم يكن التأثير مباشراً أو فاقع اللون، فإنه يبدو عند البعض بشك واضح، ولقد عمد البعض إلى الإيغال لذاته متناسياً مهمة الناقد، ودوره في جلاء الجمال وتحديد مفهوم الرسالة لا من خلال منطوقها، ولكن من خلال جوانب أخرى تكشف عن تعلق وإعجاب غير مبرر، ولعلنا نذكر نظريات (دارون) و(ماركس) و(فرويد) و(تايلر) و(كاسبرز).
والذين قبلوا التفاعل بين النقد الأدبي، وتلك النظريات (التطويرية) و(الجدلية) و(النفسية) و(الاجتماعية) و(الرمزية) قدموا بين يدي مُصالحتهم، شرط الكينونة المستقلة، بحيث تذوب هذه النظريات في المناهج النقدية ولا تذوب فيها، وفي نظري أن أقوى المناهج تأثيراً المنهج اللغوي الحديث الذي وضع أسسه (دي سوسير)، ومن شايعه أو عارضه، ولقد استوت تلك النظريات على سوقها بعد نظريتي (التفكيك) و(التحويل)، وهي نظريات عاضدت انتقال مركز الكون النقدي من (النص) إلى (المتلقي) وسلطة المتلقي المهيمنة على المشهد النقدي تتوسل بتأويل النص بالمناهج والآليات اللغوية الحديثة، إذ هي وحدها التي تستطيع الغوص في أعماق النص، وتحميله الدلالة التي يشتهيها المتلقي.
وأياً ما كان الأمر فإن القصيدة المعاصرة المأزومة لم تكن سيدة الموقف، إذ تخلفت أمام طوفان السرديات، وارتهان السردية للحدث نزع بالقول النقدي إلى البعد الموضوعي، والحركة الداخلية للنص، ومن ثم لم تعد الجمالية الصوتية بقدر الحركة الداخلية للنص، وهذه التحولات القسرية قلصت مناهج وآليات النقد الشعري، وأحلَّت مكانها مناهج وآليات لا تبحث في شعرية النص، وإنما تتحسس عن أدبية النص، لا على المفهوم التراثي، بل على مفاهيم جديدة، أعطت الأدبية بقدر ما أعطيت الشعرية.
(والشعرية) التي أوسعها النقاد المعاصرون درساً متقصياً مصطلح له مكوناته ومقتضياته التي تفارق مفهوم الشعرية في التراث، وعلى كل التصورات والتوقعات فإن للقصيدة المعاصرة حضورها المأزوم الذي حمل كثيراً من النقاد على تحرير هذه العوارض، ومحاولة الخروج بحلول تحفظ ماء الوجه النقدي، ولست معنياً باستقصاء ذلك، لأنه يجنح بي إلى التنظير، وما كنت لأذعن لهذه القضية لأنها مشبعة بحثاً، والمأخذ على المشاهد طغيان التنظير.