كنت صغيراً وكان كل من حولي في حي منفوحة صغاراً، لسنا تشكيلاً واحداً، وإنما تشكيلات كثيرة، والتنوع العرقي واللوني والحضري والقبلي الذي يلف حياتنا كان صفة بارزة لا توجد إلا في حينا والأحياء الأخرى القريبة، مثل: حي الوزير والبديعة والجرادية والأعشى والطرادية ومعكال..، وسط الرياض كان مكاناً للجميع، للكل، للناس.
كان منزلنا على أربعة شوارع، يقابله من جهة الشمال منزل من أهل القصيم، ومن جهة الشرق منزل من أهل سدير ومن جهة الجنوب منزل أهل الدواسر، ومن جهة الغرب منزل من الدوادمي، والمنازل المتناثرة هنا وهناك كانت تشير إلى عوائل مختلفة ومتنوعة؛ عوائل من الجنوب وعوائل من الحجاز، وعوائل من الشرقية، كان المكان بمساحته الكبيرة يحوي تنوعاً عائلياً لا مثيل له.
وسط هذا العالم الجميل كانت طفولتنا، كان اختلاف البشر يضفي على حياة الصغار تصالحا عاما مع الكل، وكان التميز بقدر ما للطفل من مواهب وقدرات وليس بنوع انتمائه العائلي أو القبلي، كان عالم الطفولة في هذا الحي كبيرا بقدر ما يتصف من تنوع عائلي وبقدر ما يتصف من تنوع ثقافي واجتماعي.
كانت الصلاة في طفولتنا عملا عباديا، نذهب للصلاة وعندما نخرج منها، ننتشر في الأرض، ليس ثمة قائد ديني يجمعنا لنتلقى منه الدين والحياة، وليس ثمة جماعة نكن لها بالولاء، محيطنا الطفولي واسع جدا ليس له حدود بحيث نعادي من خارجه، كان الجميع في منفوحة يحبون الله والناس والوطن.
لا أذكر في تلك الطفولة المبكرة أن أحدا تحدث بلهجة معينة تشير إلى انتمائه، ولم يكن أحد نسقي، ولا حاد، كان الجميع يتحدثون بلهجة أهل الرياض، ليس أهل الرياض الأصل الذين (يفخمون) الكلمات وإنما أهل الرياض المدينة التي جاءت نتيجة لتلاقح لهجات مختلفة، التي تميل إلى اللهجة الإعلامية الحديثة إن صح التعبير.
نشأ الصغار متصالحين مع نظرائهم الصغار في أرجاء الحي، مع كل العوائل، مع كل الانتماءات الأسرية البيضاء والسمراء والحمراء، وعندما أتساءل عن هذا، عمن غرس في حياتنا هذا التصالح مع الكل، عمن جعلنا (إنسانا مدنيا) من حيث العلاقات المنفتحة على الكل، أجد أن منفوحة هي التي فعلت ذلك، ليست انتماءات ثائرة، وليس الإعلام فالإعلام وقتها لم يكن بذلك التأثير، ليست المدرسة فالمدرسة لم تكن تعرف شيئا اسمه المجتمع المدني، ليست قراءاتنا في الصغر فالكتب والقصص والحكايات لا تشير إلى مثل هذه المعاني.
منفوحة كانت مجتمعاً مدنياً بالفطرة من حيث العلاقات الاجتماعية، كانت مكاناً بريئا خاليا من كل ما هو مثير للنعرات القبلية والطائفية والحزبية، وخاليا من كل ما هو أيدلوجي، كانت هي التي صبغت طفولة أولئك الصغار بهذه المعاني كنا نلعب مع الجميع ونحب الجميع ولا نسأل عن الانتماء بقدر ما نسأل عن الإنسان.
Ra99ja@yahoo.com