بعد صدور التقرير الأخير للتقويم العالمي للجامعات الذي صدر عن (ويبو ماتركس الأسباني Webometrics )وما ظهر عنه من اعتلاء بعض جامعاتنا السعودية من مكانة مرموقة في ذلك الترتيب، وهما: جامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، على مستوى العالم العربي والدول الإسلامية.
وهذا التقييم وإن كان ينظر إليه على أنه تقييم لموقع الجامعات على الشبكة العنكبوتية، إلا أن له دلالات كبيرة وعلى رأسها مجال البحث العلمي الذي يقدر له وزناً كبيراً في أحداث تلك النقلات والتطورات لمواقع الجامعات.
إن مواقع الجامعات على الشبكة العنكبوتية والتي تؤخذ في الاعتبار، هي مواقع للأساتذة وسيرهم الذاتية ونشاطاتهم البحثية، وكذلك أبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى المكتبات ومراكز البحوث ونشاطاته والتقارير البحثية والاختراعات والابتكارات العلمية، وغيرها من الخدمات التي تقدمها الجامعات للطلاب والباحثين والمجتمع.
وإذا انتقلنا خطوة أعلى وأبعد من ترتيب المواقع على الشبكة العنكبوتية، ووجهنا التساؤل المنطقي الآتي وماذا بعد التقييم للمواقع؟ هل نحن بخير فيما يتعلق بالكفاءة التعليمية والمخرجات العلمية والمهارية؟ وهل توفرت لدينا الكفاءة البحثية والإبداعية المناسبة؟
أما فيما يتعلق بجانب المهارات والمخرجات في المجال التعليمي، فهذا يحتاج إلى إفراد موضوع، بل موضوعات خاصة بها، ولكن التركيز هنا هو على البحث العلمي والذي أراه ذروة سنام التألق، وله أفرد الحديث في هذا المقالة. إن مكانة الجامعات الحقيقة إنما يعكس إمكاناتها البحثية ومخزونها الحقيقي، من علماؤها الباحثين البارزين في البحث العلمي، وعلى رأس التميز أولئك الحاصلين على جوائز عالمية، ومن أهمها أولئك الحاصلين على جائزة نوبل.
واستكمالاً للمقال السابق الذي نشر في جريدة الجزيرة في العدد (13093) الصفحة (27) بتاريخ 2-8-1429هـ فقد أصبح من الضروري الوقوف على موضوع البحث العلمي كمحرك أساسي للنهضة والتقدم والرفعة في تطور الأمم ونهضتها، والذي من خلاله تزدهر الأمة حين تنتج التقنية وحين تكشف عن حلول مشاكلها في كافة المجالات والميادين، ومن خلاله تتقدم العلوم. وإذا استقرأنا تاريخ الحضارات والأمم لوجدنا أن قمة صعودها وتفوقها وازدهارها كان مرتبطاً باهتمامها بالعلم والبحث العلمي، وفي حضارتنا الإسلامية على سبيل المثال ازدان موقعها وعلا شأنها على خريطة الكون بعلمها وعلمائها سواء كان ذلك في عصر الرسالة المحمدية حين نزل القرآن الكريم بالحث والدعوة العامة للقراءة في قوله عز وجل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وكذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب العلم ولو في الصين. وقد برع الباحثون المسلمون في علوم الشريعة واللغة وحتى الرياضيات والطب والفلك، وأعطوا دروساً للبشرية في الجد والمثابرة والبحث والتنقيب والأصالة والإبداع وقيادة الفكر والتنمية، في العلم الشرعي وما يؤدي إلى فهمه وشرحه والتعلم منه وتطبيقه من حيث اللغة، ومن حيث الأصول العلمية المساعدة، وبرعوا كذلك في العلم الكوني أو الحياتي، وهنا لأستميح الدكتور صالح كريم اقتباس هذا المفهوم الذي نشر في جريدة عكاظ في العدد (15321) في يوم الخميس الموافق السادس من شهر شعبان لعام 1429هـ بعنوان: (العلم والعلماء) الذي اعتبر أن هذا العلم ملتقى جميع الحضارات الغربية منها والشرقية والرومانية والأوروبية والإسلامية والأمريكية واليابانية والصينية.
ولعله من المناسب هنا اقتباس جزء من كلمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في افتتاح ندوة البحث العلمي في الجامعات الخليجية: (الواقع والتطلعات) التي عقدت في رحاب جامعة أم القرى في الفترة من 20-5 إلى 22-5- 1429هـ والتي اعتبرت بمثابة الورقة الأساسية للندوة، حيث يقول سموه: (والبحث العلمي - كما هو معروف- هو الآلية المثلى لابتكار وسائل ترقية الحياة الإنسانية, في شقيها المادي والمعنوي, تحقيقاً لاستخلاف الله الإنسان على الأرض من أجل العبادة والعمارة, وذلك باستكشاف العلماء والباحثين - بما وهبهم الله من عقلٍ وحكمةٍ- لأسرار المادة التي أوجدها الخالق جل وعلا في صور شتى, واستكناه العلاقات بينها, وتوظيفها لصالح مشروع الحضارة الإنسانية في صورها المتعاقبة, منذ اكتشاف الإنسان البدائي النار وإلى آخر ما يتوصل إليه البحث العلمي من أسباب الحضارة حتى قيام الساعة, لذلك تشتد ضراوة السباق بين بني الإنسان في هذا الميدان, وتخصص الدول الواعية جعلاً كبيراً من دخلها لهذا الغرض, كما تقدر جهود العاملين في مجاله أيما تقدير, وهم بدورهم يفنون أعمارهم في خدمة الإنسانية عامة, وفي رفع شأن أمتهم خاصة, باعتبار البحث العلمي هو الأساس الأول للتصنيف العالمي بين الدول (انتهى كلام سمو الأمير).
وفي ضوء الخطابات السابقة يبرز السؤال الآتي: ما هي مؤشرات الاهتمام بالبحث العلمي في الدول المتقدمة:
إذا سلمنا بأن البحث العلمي هو الركيزة وحجر الزاوية في تطور وتقدم الأمم والحضارات، فإن علاقات ومؤشرات الاهتمام في الدول تخضع لمعايير وفلسفات وسياسات الدول، ولكن لسياق الحديث في هذا المقال يمكن الحديث من خلال ثلاثة مؤشرات فقط:
1 - البناء البشري والفكري، ويقصد به الاعتناء بتنمية الكوادر والعقول الفكرية والبشرية التي تشكل البنية الأساسية للقيام بالأبحاث وبذر بذورها وتنميتها وصقلها ورعايتها من خلال رعاية العقل وتعليمه وتدريبه ورعاية الفكر البحثي والعقل الإبداعي من مراحل الطفولة المبكرة في المنزل والمدرسة، وإبلاء هذا الحال اهتماماً خاصًا في مناهج المدرسة وحتى الجامعة وما بعدها لتتكون لدى الطالب المهارات والأدوات البحثية، وكذلك الإرادة والاتجاه والميل والدافعية لحب البحث والإبداع فيه، وحتى هذا المؤشر يحتاج إلى تفصيل وإفراد في مقال مستقل، ولكن نكتفي بما ذكر.
2 - المؤشر المادي، وهنا نقصد الدعم المالي حيث يخصص ميزانية محددة وبنسبة معينة من الدخل ومن الناتج القومي السنوي لميزانية البلد (أي بلد) للبحث العلمي، سواء لمؤسسات البحث العلمي الحكومي، أو المؤسسات الخاصة التي تعنى بالبحث العلمي أو للمراكز والأفراد الذين يهتمون بالبحث العلمي في خدمة حل المشكلات أو تطوير الصناعات أو تطوير البحث العلمي أو المنح والجوائز أو الحوافز وغيرها، حيث يتم كل ذلك. وكذلك يتم وفق آليات للمخرجات ومؤشرات قياس الجودة والتميز. ولمعرفة مزيد من هذا المؤشرات يمكن أن نقارن ترتيب الدول حسب الإنفاق على البحث العلمي كما ورد في ورقة الأستاذ الدكتور عصام عويضة عميد البحث العلمي بجامعة طيبة والتي نشرت في أعمال ندوة البحث العلمي في الجامعات الخليجية التي نظمها معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى في الفترة من 20 - 22-5-1429هـ.
الدول العربية 0.027% من إجمالي الناتج المحلي
جنوب إفريقيا 0.030% من إجمالي الناتج المحلي
الهند 0.060% من إجمالي الناتج المحلي
تايوان 1.80% من إجمالي الناتج المحلي
أوروبا 1.93% من إجمالي الناتج المحلي
الولايات المتحدة الأمريكية 2.76% من إجمالي الناتج المحلي
اليابان 3.12% من إجمالي الناتج المحلي
السويد 4.27% من إجمالي الناتج المحلي
ومن الأرقام السابقة نلحظ الفرق الهائل فيما يخصص للبحث العلمي في الدول العربية بالدول المتقدمة، بل وحتى بالهند التي لا يصل دخلها القومي ما تصل إليه الدول العربية!!.
3 - المناخ البحثي Scientific Research Environment، وهذا يشمل المناخ النفسي، والمادي، والسياسي، حيث تنتشر ثقافة الاهتمام والإيمان بالبحث العلمي ونتائجه بين عامة الناس وصانعي القرارات وقادة البلدان على وجه الخصوص، وحيث يعزز ويتيح المناخ المجال بقبول نتائج البحوث بموضوعية واحترام وتشجيع للقائمين عليها، وحيث تتوفر المعاونات والمساعدات التي تشكل مناخ البحث العلمي من معمل ومختبر ومساعدي باحثين ونساخ ومصادر معلومات، وحيث يطفو الصالح من الأعمال والأبحاث ويخفت أو يغيب الغث والعبث.
نوعية الأبحاث التي نحتاج إليها:
وهنا لا بد من الإقرار بأننا لا يمكن أن نبحث في كل شيء، بل لا يمكن أن نفعل ذلك، لذا أصبح من المنطقي والمعقول أن نبحث فيما يفيدنا في آخرتنا، ودنيانا، سواء كان في مجال الأبحاث التي نمولها أو نقيم عليها خططنا وميزانياتنا، أو حتى أبحاث طلابنا وأساتذتنا، خذ على سبيل المثال عناوين الموضوعات التي تحتاج إلى البحث فيها في المرحلة الحالية:
(1) الدراسات التراثية والترجمات إلى الحضارات الأخرى، وهي تلك التي تخدم تراث أمتنا، وتواصلنا مع الحضارات الأخرى وتصحيح مفاهيم أبنائنا الخاطئة والمشوشة، وكذلك الأفكار والمعلومات الخاطئة لدى الآخرين عنا، وتسجل مكانتنا الحقيقة ورفعة حضارتنا.
(2) المياه ودراسة الكشف عن مصادره الجديدة.
(3) الاستهلاك وترشيده وكيفية تنويع مصادر الطاقة.
(4) الأمراض الشائعة والاهتمام بصحة الإنسان.
(5) الجرائم ومكافحاتها.
(6) الصناعات الخفيفة وتطويرها.
(7) العنوسة وحلولها.
(8) الطلاق والحلول المقترحة.
(9) الغذاء والزراعة وتنميتها.
(10) التلوث وعلاجه.
(11) التقنية والاتصالات وتطويرها.
(12) مناهج العلوم والرياضيات واللغات وتطويرها وتحديثها.
(13) الذكاء البشري، والذكاء الحضاري وتوظيفهما في تحسين الأداء والتنمية البشرية.
وإذا جعلنا مثل العناوين السابقة أولويات اهتماماتنا وخططنا فنحتاج أيضاً إلى الوقفة عندما يمكن أن نكمل مشروع النقلة النوعية للعناية بالأبحاث ألا وهي مهارات المعالجة البحثية والعلمية لها، وهذه المهارات تتضمن المناهج العلمية العليا التجريبية أو شبه التجريبية Experimental or Quasi - Experimental Research والابتعاد بقدر الإمكان عن البحوث الوصفية التي أصبحت مكررة وغير مجدية، فالأولى تكشف عن الأسباب بين المتغيرات وتسهم في التوصل إلى حلول المشكلات، والثانية مجرد قوالب مكررة وغير مجدية، وفي مرحلتنا الحالية عالمياً ومحلياً أصبحنا بحاجة إلى معرفة الإجابة على كيف أو هل (أ) بسبب (ب) بدلاً من هل هناك علاقة بين (س) و (ص)؟ لأن المهارات المنهجية مثل ما أشير إليه تحتاج إلى بناء وتعلم يتم من خلال مناهج قوية ومؤثرة في برامج الدراسات العليا ودورات مكثفة للباحثين، الذين يفتقرون إلى مثل هذه الأدوات، وهذا ما سيخدم أهدفنا.
وهذه المقومات لنجاح البحث العلمي الحقيقي إنما تتوفر في غالبها في الجامعات، حيث الجامعات تتضمن مخابر البحث وورش التجريب، وحيث الجامعات تتضمن العقول والكوادر المفكرة، وحيث الجامعات تتضمن المكتبات ومصادر المعلومات، وحيث الجامعات تحتوي على مجمع العلم والمعرفة.
كيف تجعل الجامعات البحث العلمي ذا شأن فاعل فيها، وتدخل المنافسة الفعلية بكفاءة واقتدار؟
فيما يلي مجموعة من عناوين المقترحات أرى أنها ضرورية للارتقاء بالبحث العلمي في الجامعة (أي جامعة) حيث يجب أن تضعها هدفاً وقيمة وخطة وأن تعمل على تحقيقها وفق خطة وبرنامج قابل للقياس والتنفيذ، وفي ضوء مدة زمنية محددة:
1 - الأستاذ الباحث إعداده ومهارات إعداده في البحث العلمي.
2 - المنهج البحثي السليم للباحث وكيفية تعلمه وإتقانه للأساتذة والطلاب.
3 - الباحث المساعد وتوفيره وتدريبه للمعاونة في البحث.
4 - المعمل والمكتبة والمكتب والاهتمام بها وتحديثها وجعلها مكاناً ومصدراً مساعداً للباحثين.
5 - التسهيلات والمحفزات المادية (المشاركة في المؤتمرات، وتوفر السكرتارية، والاتصالات المحلية والدولية، والاهتمام بها وجعلها من ضمن الولاية الإدارية للجامعة).
6 - تشجيع المرونة في التعامل مع البيئة خارج الجامعة بالنسبة للأستاذ الباحث أخذاً وعطاءً.
7 - التفرغ للبحث كلياً كان أو جزئياً في ضوء الخطط والمهام الأساسية للمميزين.
8 - الحوافز والجوائز للباحثين والمبدعين والمميزين منهم باعتبارها وسائل لدفع الطاقة وتحريك الهمم.
9 - التواصل مع الإعلام بكل قنواته في مجال الإعلام بنتائج الأبحاث المهمة والباحثين المميزين.
10 - حقوق البراءة وحقوق الإبداع واعتبارها حقوقاً تكفل للجميع العمل بأمان واطمئنان.
11 - تسهيل التسريع بإخراج الأبحاث إلي حيز الواقع إلكترونياً وورقياً (التواصل مع من يعنيه الأمر، الجهات المستفيدة في القطاع الصناعي والطبي والتعليمي والمالي وغيرها، بدلاً من تركها تقبع في الأرفف والمستودعات وتعميم فائدتها بانتهاء أصحابها من الحصول على درجاتهم).
12 - الثقافة البحثية ونشرها لتقدير قيمة العلم والعلماء والبحث العلمي وهي نتاج نهضة علمية وبيئة صحية برعاية البحث العلمي وتنميته واستثماره وتطبيق نتائجه وهذه مسؤولية تقع ضمن مسئوليات الجامعة في بث الثقافة العلمية.
13 - إعادة هيكلة وسياسة ومكانة البحث العلمي في الهيكل العام الإداري في الجامعات الحكومية أو التي ترغب في جعل البحث العلمي يأخذ حيزاً مناسباً بعيداً عن البيروقراطية والمركزية في توجيه وتنفيذ نشاط البحث العلمي.
14 - الاستمرار في سياسة استقطاب الكفاءات البحثية المميزة من الباحثين في المعاهد ومراكز البحث العلمي في الجامعات والمعاهد العالمية كما تفعل ذلك كل من جامعتي الملك سعود، والملك فهد للبترول والمعادن وكما يجب أن تبني مثل هذه السياسات في الجامعات الأخرى.
15 - الاهتمام بقواعد البيانات أو بوابات البيانات المشتركة للبحث العلمي، على مستوى الجامعات في البلد الواحد أو في عدة بلدان، فنحن نفتقر إلى قاعدة موحدة ومشتركة للأبحاث التي تجرى في المملكة على سبيل المثال، فكل جامعة لها قاعدتها أو قواعدها الخاصة ببياناتها، فلو رغب باحث أو باحثة إجراء دراسة على موضوع معين فلابد له أن يتجه إلى عدة جهات ومصادر مختلفة في الجامعات والكليات السعودية للبحث في موضوع بحثه، وقد يجد ضالته، وقد لا يجد إلا النزر اليسير، فهلا أنشأنا مركزاً وطنياً موحداً ووعاءً مركزياً يبدأ برسائل الماجستير والدكتوراه على غرار المركز العالمي في ولاية ميتشجان الأمريكية المسمى ب(UMI) والذي يجمع رسائل الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية جميعها، فكم سيوفر هذا من جهد ومعلومة للباحثين، وأرى أن هذا المركز أو المؤسسة يمكن أن تنشأ بداية تحت مظلة وزارة التعليم العالي، والفرصة مواتية في ضوء الدعم المادي الملموس والانفتاح والتشجيع المرن لهذه الأفكار الهادفة والبناءة لخدمة الباحثين والبحث العلمي.
وبالله التوفيق.
* عميد معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة