كنت أتأمل بعض مواقف معاذ بن جبل رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبلغ بي التأمّل أقصى حالات الإحساس بعظمة أولئك الرجال الكرام الذين علّمهم وربّاهم أفضل الخلق في مدرسة النبوة.
لقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، كما بعث إليها أبا موسى الأشعري، فكان لهما من السيرة الحسنة، والعمل الجادّ، والعدل والإنصاف ما جعل قلوب أهل اليمن الرقيقة تميل إليها وإلى ما جاءا به من الهدى والحق.
يقول معاذ: بعثني الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وسار معي يودعني ماشياً وأنا على راحلتي ثم قال: يا معاذ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري، ثم التفت بوجهه الكريم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. وقال: إنّ أولى الناس بي المتقون، مَن كانوا وحيث كانوا.
وقد ورد في رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: فقد بعثتك إلى قوم (رقيقة) قلوبهم، يقاتلون على الحق مرتين، فقاتل بمن أطاعك منهم مَن عصاك، ثم يفيئون إلى الإسلام حتى تبادر المرأة زوجها، والولد والده، والأخ أخاه، فانزل بين الحيّين السكون والسكاسك.
وقد روى لنا التاريخ من السيرة الحسنة، والعدل والإنصاف والقوة في الحق والرحمة، والرحمة بالناس ما يشعرنا بشموخ أولئك الرجال.
الجوانب المضيئة في مواقف تلميذ المدرسة المحمدية (معاذ بن جبل) كثيرة، ولكنّ موقفاً واحداً منها يستحق أن نتأمله سوياً.
عن أُبيِّ بن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شاباً جميلاً سمحاً من خير قومه، لا يسأله أحد شيئاً إلا أعطاه، فهو لا يستطيع ردّ سائل، حتى كان عليه دين كثير أغلق ماله، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يشفع له عند غرمائه، ففعل الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك، ولكن نفوس الغرماء لم تطب بشيء مما كان يرجوه معاذ، قال فما لبث أن دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه، فقام معاذ ولا مال له، قال: فلما عزم الرسول عليه الصلاة والسلام على حجة الوداع، بعث معاذاً إلى اليمن، وأوصاه بما هو معلوم، ففتح الله عليه من النعمة ما صلحت به حاله، فكان أول من تجر في هذا المال، مع كونه والياً، ثم قدم معاذ إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك مصداقاً لما أخبره به الرسول حينما بعثه إلى اليمن من أنه ربما لا يلتقي به مرة أخرى، قدم معاذ إلى المدينة وأبو بكر هو خليفة المسلمين، فجاء عمر إلى معاذ فقال له: هل لك أن تطيعني فتدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فاقبله، فقال معاذ: لماذا أدفعه إليه، وإنما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني -بعد أن ذهب الغرماء بماله-، فلما أبى معاذ انطلق عمر إلى أبي بكر -رضي الله عنهما- فقال: يا أبا بكر أرسل إلى هذا الرجال -يقصد معاذاً- فخذ من ماله الذي جاء به ودع له منه شيئاً، فقال أبو بكر: ما كنت لأفعل، إنما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم ليجبره، فلست آخذ منه شيئاً. قال: فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر بن الخطاب فقال له: ما أراني يا عمر إلا فاعلاً ما نصحتني به، إني رأيتني البارحة في نومي أجرُّ إلى النار وأنت آخذ بحجزتي لأنجو منها، قال: فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به من اليمن حتى جاءه بسوطه وحلف له أنه لم يكتمه شيئاً. قال: فقال له أبو بكر: هو لك لا آخذ منه شيئاً.
ما رأيكم أيها الأحبة القراء في هؤلاء الرجال الأفذاذ؟ وهل رأيتم شموخاً في النفوس كهذا الشموخ الذي يصنعه الإيمان بالله تعالى؟
هنا -أيها الأحبة- يكمن سر تلك الانتصارات التي رفعت راية الحق خفاقة في أنحاء المعمورة.
إشارة:
إن النفوس التي يعمرها الإسلام لا تعرف إلا الشموخ
www.AWFAZ.com