عندما أعلن الرئيس الأمريكي بوش بعد 11 سبتمبر أن جميع من هم ليسوا معنا هم بالضرورة ضدنا، ثارت ثائرة الكثيرين، اعتبروها ضرباً من ضروب التطرف الذي لا يمكن قبوله في زمن التعددية الفكرية، واختلاف المشارب، والعقائد، والتوجهات السياسية والاقتصادية، والتعايش رغم الاختلاف.
وأنا أعتقد -وما أزال- أن هذه المقولة التي تفوه بها الرئيس الأمريكي بعيد الفاجعة الإرهابية، كانت غلطة شنيعة، لم تحسب عواقبها بعمق وتؤدة، صبت في مصلحة بن لادن، وحشدت الحشود خلفه، ووحدت كل الذين يختلفون مع أمريكا ليقفوا في ذات الخندق الذي كان يقف فيه بن لادن والقاعدة، خصوصاً عندما انتهز الفرصة بن لادن ورفع في مواجهة بوش مقولة الفسطاطين. وكما قال لي أحد الأمريكيين: (كلفتنا مقولة الرئيس بوش الحمقاء على مستوى الرأي العام العالمي الكثير من الخسائر).
غير أن الذي يجب أن نتنبه إليه -أيضاً- أن خطاب (إذا لم تكن معي فأنت ضدي)، وبالتالي من حقي أن (أرغمك) على أن تكون معي بقوة السلاح: (جهاد الطلب)، ما زال على مستوى الممارسة حاضراً وبقوة في ثقافتنا، رغم تشنيعنا على الرئيس بوش عندما تفوه به، ثم طبقه على مستوى الممارسة، بل ما زال عند البعض (أس) التعامل الذي يجب أن يكون عليه محور علاقاتنا مع من نختلف معهم في العقيدة.
ولا يمكن أن تكون منطقياً، وصاحب حجة، ومقنعاً، وبالذات في حواراتك مع من تختلف معهم، إذا كنت تستخدم في خطابك ضد الآخر وسيلة ما، وتعتبرها غير قابلة للتنازل، على اعتبار أنها جزء من الدين، و(ترفض) في المقابل لمن يقف على الضفة الأخرى من النهر، أن يستخدم ذات الوسيلة. لذلك فإن من البديهي (حتماً) أن الذي أمامك سيتخذ نفس الموقف، وهو حق مشروع له لا يسلبه إياه عاقل. ولك أن تتصور العالم، في زمن (السلاح الذري)، كيف سيكون عليه، لو أن الغزو أو (جهاد الطلب) -الذي ما زال يؤمن به كثير من (المتكلسين) في ثقافتنا لو أتيحت لهم الإمكانيات- تم تفعيله. فالذين يؤمنون بشعار إن لم تكن معي فأنت ضدي كشرط من شروط التعامل مع الآخر هم نفسهم الذين ما زالوا يؤمنون بجهاد الطلب.
ولا يمكن قبول قول من قال إن (جهاد الطلب) جزء من شريعتنا، وبالتالي فإن التخلي عنه هو تخلٍّ عن الشريعة. (الرق) -أيضاً- كان باباً من أبواب الفقه في الشريعة، ومع ذلك تم إلغاؤه عملياً بعد أن تم تحرير الأرقاء، وسقط نظام الرق إلى الأبد. قرار إلغاء الرق الذي وافق عليه علماؤنا (الأوائل) كان قراراً شجاعاً، وموضوعياً، ومواكباً للمفاهيم العالمية التي كانت تعتبر (الرق) ممارسة لا تمت للإنسانية بصلة. الآن لا يستطيع أحد أن يعترض على هذا (الإلغاء) -فضلاً عن أن يطالب بنظام الرق والسبي من جديد انطلاقاً من كونه جزءاً من شريعتنا- إلا واعتبره الناس (معتوهاً)، والسؤال: لماذا لا نتعامل مع (جهاد الطلب) بنفس المعايير والمسوغات التي ألغينا بها أنظمة الرق التي كانت تشغل جزءاً من كتب الفقه في الشريعة؟.
وأنا هنا لا أتحدث عن (جهاد الدفع)، أو بلغة أكثر معاصرة: (جهاد المقاومة). هذا النوع من الجهاد لا أحد يختلف معنا عليه، فمثلما أن الدفاع عن النفس مشروع، ولا ينازعك فيه منازع، كذلك جهاد الدفع (حق) مشروع لنفس الأسباب والمبررات. أن نحض أبناءنا على أن يدافعوا عن أوطانهم شيء وأن نحضهم على الاعتداء و(غزو) من نختلف معهم، تنفيذاً لجهاد الطلب، شيء آخر. بقاء جهاد الطلب كجزء من الفقه المعاصر هو تماماً كأن تعتبر الرق واستعباد الأسرى (حقاً) مشروعاً للمنتصر في الحروب مثلما كان عليه الأمر في الماضي، وتصر على إبقائه حاضراً في فقهنا اليوم.