أصبحت صديقاً لها قبل أن أعرفها ويوم عرفتها، وعشت بين أحضانها سنوات من عمري، وتبادلت معها السلام شفاهة، لم تجفاني وأجفوها، بل اندفعت للتعرف عليها أكثر عن قرب.
ليس لأنها جذابة، ولكن لأنني رأيت وأحسست فيها نبلاً، وبساطة، وخجلا، ومن ثم فمن الخطير ضخ آراء عنها مسبقة، وجاهزة، ومعلبة، تضمر سوء النية، وهي التي في رحابها (انتفض العز وقال من ناداني).
استقبلتني قبل أكثر من عشرين عاماً، ففرشت في طريقها الورود، وعطرت الكلمات إليها بحبر المسك والعنبر، وسمعت إبداعاتها في غسق الليل، ومع نسمات الصباح، ووصلت همساتها إلى عقلي وقلبي، وانتظرت بوح قلمي، كثير من الناس يعرفونها ويعرفون اسمها، ومن يذكرها بسوء فهو عاق وجاحد. أيعقل أن ينسى المرء وشوشة الطفولة فيها؟ ألم يتذكر مكاناً جلس فيه وهواء تنفسه، وشعراً قيل عنها وفيها، ورسائل حملت في طياتها عنفوان الشباب، وحكمة الشيوخ، ووقار الصمت؟ أيعقل ألا يستغل كاتب براءتها ليقول عنها شيئاً ذا قيمة ألا يتذكر أنها استطاعت أن تثبت قيمتها لمن حولها؟ لقد توسدت وهي طفلة ساعدي أمها والتصقت بصدر جدتها، وذرفت دمعة على عباءة تدثرت بها. إنها بسيطة في حياتها، ولذلك استطاعت أن تنبت الزهر في من حولها، تحدثهم عن الدار والجار، والجار ذي القربى، الابتسامة لا تفارق محياها، ولمسة الحب في عينيها، لا تتباهى في مشيتها، ولم تتجرد من آدميتها، زاولت سلوكاً حضارياً مع نفسها، ومع من حولها، ظلت غادة حسناء، على ذراعيها نقش الحناء، وفي عينيها براءة الصبايا، تعيش تحت ظل شجرة العشق، وتنام تحتها، ولا تسلب أجمل لحظات الفرح، ومسكونة بلم أشتات أناس تربطهم روح واحدة، وجسد واحد، وقلب واحد، وعين واحدة، وماض واحد، وحاضر واحد، ومستقبل واحد، فأنى لأمرئ أن يتنكر لها؟ ولأحلامها، ولأوجاعها، ولروحها الطامحة، ولتحاياها التي تلقيها على كل قلب معتق بحبها؟
هي عملاقة، رسمت على جبهتها الشماء ملحمة شعب وأمة ووطن، وصنعت له الخرائط التي لا تبلى مع الزمن. سكنت أعماق الوجدان، والوعي، والثقافة، والإبداع، والحضور الإنساني، ووضعت يديها على الجراح فواستها، واختزنت التاريخ، وحملته على كفيها، وصارعت الأمواج العاتية، وأبت العيش مع الأيادي الملطخة بالدماء.
هي معشوقتي، على لسانها لغتي، ومنها هويتي، وفي عينيها ضوء خيام سكن ناسها فيها، وها هي اليوم تروي قصة أمة تحتضن الدين، والعلم، والثقافة، والإنسانية، طريقها التنوع، والحوار، والحيوية، وحضورها لا يغيب، يضاهي حبي لها حب مسقط رأسي (ينبع) في كل زمن، وفي بداية كل رحلة ونهايتها. إنها نجد وأنا العاشق المتيم بها، قدر تتيمي بمسقط رأسي.