تتابع إخوتي ومضوا لأمرٍ |
عليه تتابع القوم الخيارُ |
الدنيا طبعت على كدر ومتاعب جمة سواء الجسمانية أو الفكرية والنفسية معاً، وهذا هو واقع الحياة ما بين صفو وكدر، ومنغصات يختلف وقعها وارتطامها بجمار القلوب المحاطة بسياج الأضلع ومسبباتها قوة وضعفاً، لأن مصائب الدنيا تختلف باختلاف أحاسيس وتحمل الأفراد والجماعات لها، فهي وإن صفت أعقب صفوها كدر: |
طبعت على كدر وأنت تريدها |
صفواً من الأقذاء والأكدار |
فبينما يعيش المرء مزهواً بالصحة والسعادة مغتبطاً في هذا الوجود ومستأنساً بأطاييب الحياة وملذاتها مع ما يزاوله من أنشطة وجولات - أحياناً- في مناكب الأرض كيفما يشاء يمنة ويسرة طلباً للمعيشة، أو ترفا وسياحة، فإذا بمفاجآت الأقدار تنغص وتكدر عليه ما استمتع به من حلو العيش وأطايب النعيم وملذات الحياة بحلول بعض الأمراض الطارئة المخيفة - مثلاً- التي قد تكون سبباً في قلقه وتعجيل رحيله - والآجال بيد الله وحده- فيكون وقع ذاك الوافد المزعج محطماً لقواه ولآماله العراض، فيظل هاجس الرحيل مدوياً في طوايا نفسه، ومجلجلاً في حنايا صدره مُكدراً لخاطره، فيحاول جاهداً صده وإفلاته من جسده بتكثيف المراجعة للأطباء علّهم يعملون شيئاً ما يطمئن نفسه المحاطة بالقلق والخوف من المجهول المحتوم.. وقد يزمع السفر إلى بعض بلدان العالم المتقدمة طبياً علّه يجد سبباً في مد حبل عمره معافاً، ولكن المكتوب في عالي جبينه لا مناص منه البتة، وهذا هو شأن أمثال الشيخ الوجيه الحبيب حاضر بن عبدالله العريفي الذي حاول الفرار من قبضة هادم اللذات بالتعجل بالسفر متنقلاً بين البلدان الأوروبية، والولايات الأمريكية فراراً منه فرجع خائبة آماله واستمر في العلاج بمستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بضعة شهور، ثم رحل عنا وغاب عن الوجود في يوم الأحد 16-8-1429هـ، وقد أديت صلاة الميت عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام ودفن بمقابر العدل مأسوفاً عليه بعد حياة سعيدة حافلة بالمسرات وسعة الخاطر، وبعد أن صال وجال وطاف في أنحاء الدنيا.. ومتع ناظريه من آفاقها المتباعدة إلى أن حضره يومه الموعود - كما أسلفنا آنفاً-{وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(11) سورة المنافقون. وكان ذاك اليوم الأحد 16-8 يوما محزنا لأبنائه وعقيلتيه أم خالد وأم نواف وجميع أفراد أسرته ومحبيه - تغمده الله بواسع رحمته- ولقد قضى أيام طفولته وأوائل شبابه بين أحضان والديه في ربوع وأكناف بلدة (جزالة) بمحافظة القويعية بلد أسرة العرافا الذين اشتهروا بالكرم والتعاون والتآلف فيما بينهم، عاش بين أقرانه وأترابه في تلك البلد الوادعة التي يسود جوها الهدوء وطيب المناخ أجمل أيام عمره وأحلى ذكرياته، وقد تروى من ماء بئر (جزالة المشهورة) فزاده ماؤها أعذب حلاوة وطراوة في حديثه، ولطافة في حسن تعامله مع الجميع! ثم رحل إلى مدينة الرياض وأخذ بأسباب المعيشة، وبعد تحسن حاله المادية أخذ يشتغل بالتجارة، وأخيراً استقر به المطاف في أولى مصايف المملكة بمحافظة الطائف فحسنت حاله المادية كثيراً، ثم اختاره شركاؤه مديراً عاماً لشركة الجزيرة للمقاولات، لما يتمتع به من أمانة وحنكة وحسن تعامل، فأشرع باب منزله داخل المدينة وبستانه الواقع في مرتفعات الهدا بالطائف لاستقبال من يؤمه من الضيوف، وقاصديه من أسرته وأصدقائه ومعارفه الكثر.. ويعد ذاك البستان من أجمل البساتين الحافلة بأجود أنواع الفواكه والخضراوات: من رمان وكروم وكمثرى وحماط.. وبسائر الخضراوات المعروفة بتلك الأجواء الممتعة: |
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا |
وما أحسن المصطاف والمتربعا |
فهو - رحمه الله- قد طوق أعناق الرجال بأفضاله وكرمه الحاتمي.. مع ما ينفح الزائر بجزيل هداياه من تلك الثمار الحلوة اليانعة، فمن صفاته الحميدة أنه طيب المعشر هادئ الطبع حلو الطرفة والنكات، فحديثه خفيف على القلوب لا يمل يؤنس السامع، وينسي الضيف أهله ببالغ حفاوته وإيناسه، وهذا يذكرنا بقول الشاعر الغنوي: |
حبيب إلى الزوار غشيان بيته |
جميل المحيا، شب وهو كريم |
وكأني بمن يمر محاذياً ذاك المكان الذي ألفوه مرتع الأضياف لاوياً عنقه نحوه متحسراً على غياب صاحبه وقد خلت من شخصه داره.. مستحضراً هذا البيت: |
ووحشته حتى كأن لم يكن به |
أنيس ولم تحسن لعين مناظره! |
فنرجو أن تستمر ساعات الأنس بلقاء الأحبة والأضياف هناك.. ولقد سعدت بمعرفة (أبو عبدالله) منذ أعوام وبأول لقاء معه وبصديقه الخاص الأستاذ الفاضل عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ مدير عام الإقليم الجنوبي للخطوط السعودية، وذلك في حفل تكريم حفظة القرآن الكريم بالمدرسة الصالحية بمحافظة حريملاء منذ سنوات التي سعد بتأسيسها وفتحها على نفقته الخاصة الشيخ الراحل محمد بن صالح بن سلطان -رحمه الله- فكنت كلما أحضر إلى الطائف أزوره وأزور صديقنا الأستاذ عبدالرحمن آل الشيخ وألقى كل تكريم وحفاوة منهما، كما لا أنسى هدايا (حاضر) المتكررة الجزلة من كراتين الرمان وسائر الفواكه كل عام.. وكان من حفاوته بي أثناء وجودي بفندق المسرة الواقع على مقربة من مطار الحوية في ضيافة محافظ الطائف الأستاذ فهد بن عبدالعزيز المعمر وقت الاحتفال بمرور خمسين عاما على تأسيس دار التوحيد عام 1364هـ، كان رحمه الله يأتي في الصباح الباكر فيأخذني بالقوة بسيارته لتناول طعام الإفطار معه الذي تعده إعداداً شهياً عقيلتاه أم خالد وأم نواف متعهما الله بالصحة والسعادة، وجبر مصيبتهما بفقد إلفهما الغالي اللتين حزنتا عليه حزنا عميقا سيطول مكثه بين جوانحهما..! فلسان حالي يملي عليهما هذا البيت لعلهما تجدان فيه سلوة: |
فقلت لها صبراً فكل قرينة |
مفارقها لابد يوماً قرينها! |
وأنا بدوري أختتم هذه الكلمة الوجيزة بهذا البيت: |
ستبقى لكم في مضمر القلب والحشا |
سريرة ود يوم تبلى السرائر |
فذكرى (هذا الصديق الوفي) ستبقى في خاطري مدى عمري، رحمه الله رحمة واسعة وألهم أبناءه ومعالي الشيخ ناصر الشثري، وزوجتيه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. |
- حريملاء |
|