أتحفظ على (الأَنَوِيَّة) و(النَّحْنِوَيَّةَ) متى انبعثتا من الكبرياء والاعتداد بالنفس وعُقد التورم، غير أنهما فيما سوى ذلك من لوازم الكلام السَّوي، إذ هما من الضمائر التي وردت في الذكر الحكيم في أكثر من آية..
.. ف(نحن) وردت خمساً وثمانين مرة، فيما وردت (أنا) سبعاً وستين مرة.
ومن الخطأ القول: (أنا وأعوذ بالله من أنا) ف(الأَنَوِيَّةُ) حين تأتي لتحديد المسؤولية، تكون مراعية لمقتضى الحال، فلا مَزِيَّة ولا رزيَّة إذن، ولاسيما أن الأعمالَ والأقوال بالنيّات.
ولأن رمضان شعيرة عملية فإن له خصوصيته التي تحكم أحوال الناس ولهم معه وقفات يحلو التعرف على طائفة منها، وليس في ذلك من بأس ولا فضول، وما التاريخ إلا أحداث تتعاقب، وما الأدوية إلا قطرات تنهل وما الحياة كلها إلا ذرات لاتني في الحركة، والناس في رمضان أوزاع، وإن جمعتهم روحانياته، وعمّتهم بركاته، وشملتهم ألطافه، وأظلتهم رحماته، ومثلما فضل الله بعض الناس على بعض وخُصَّت بعض البقاع بأن كانت حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء خُصَّت بعض الأزمنة بمزيد من الفضل كعشر ذي الحجة والأشهر الحرم ويوم الجمعة والحج الأكبر وهذا الشهر المبارك الذي حققت فيه الأمة الإسلامية أهم انتصاراتها وانتصر فيه الإنسان على نفسه الأمّارة بالسوء وهواه المتبع وشهواته العارمة. وما تصفيد الشياطين فيه إلا من خلال قمع الشهوات، وترويض الغرائز، وتمكين المترفين من التلبس الإلزامي بحيوات الفقراء والمعوزين والتعود على الانضباط، (لزومٌ) في لحظة، و(إفطار) في أخرى، وانطلاق جماعي إلى المساجد للتهجد والقنوت، وبذل سخي، وتغيير جذري لنمطية الحياة ورتابة الممارسات. إنه موسم خير تضاعف فيه الحسنات، ومحطة للتزود من الطاعات، وخير الزاد التقوى، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، وعشرٌ يشد فيها المئزر ويشمر فيها عن السواعد، وحق له أن يسمى شهر الحق والقوَّة والحرية والمواساة والمساواة، لتوفره على عوائد صحية ونفسية وروحية وخلقية، وتعويده على الصبر والامتثال والتماثل، فالأمة بمختلف مستوياتها المادية والمعنوية يحكمها نظام غذائي واحد وانضباط عملي لا يحيد عنه إلا هالك، ويكفي أنه يقمع الشهوات، ويمكن الإنسان من التحرر من رقها طول أيامه ولياليه، وعبيد الشهوات أذل من عبيد الأناسي، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار..)
ولقد سماه (الرافعي) ب(الفقر الإجباري) وتوسع في البسط (مصطفى السباعي) والحق انه كبحٌ للجسم المادي وإطلاق للروح التي هي من أمر ربي، لكي تنهض بدورها، بوصفها القسيم الأهم للجسم، ومن حقها أن تتجلى، ولو لفترة موقوتة من الزمن فتخلّص الإنسان من وضر المادة، ورق الشهوات.
ورمضان كأي شعيرة موسمية أخذه العلماء والأدباء والمفكرون من أقطاره وكل عالم أو مفكر أو أديب يستهويه الحديث عن الصوم تشده ظواهر العصر وأنساقه الثقافية، والصوم نصٌ مفتوح يتسع لكل التأويلات، فلقد سماه الزيات ربيع الأرواح وصيام الجوارح وفطام المشاعر، ونظر إليه الرافعي من الجانب الإنساني.
ولأهميته فقد تكرر جذره في الذكر الحكيم ثلاث عشرة مرة تدور حول التخيير والفرض والإباحة والكفارات والنذور والثناء على الصائمين والصائمات فيما لم يرد جذر رمضان إلا مرة واحدة.
أما الأحاديث النبوية عن الصوم فقد صنَّف فيها الدكتور عبدالملك قاضي موسوعة من ثلاثة مجلدات، زودني بنسخة من طبعتها التمهيدية لمراجعتها ظناً منه أنني متخصص بالحديث، ولست أدري ماذا فعل الله بالمشروع العلمي الهام، وأحاديث تلك الشعيرة منها المتفق على صحته، ومنها ما دون ذلك وكلها تدور حول الأحكام والفضائل والمثوبة، والذي يهمنا هنا آدابه، فالظواهر اليوم لا تبشر بخير، وبخاصة حين سهر الناس على المسلسلات، وناموا عن العبادات وتفننوا في المأكولات والمشروبات، ففي الصحيحين: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم) وفي البخاري: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وعند ابن خزيمة وابن حبان: (إنما الصيام من اللغو والرفث).
ولا مزيد على ما قيل عن الصيام لا من حيث الفضائل والأحكام، ولا من حيث الرؤية والثبوت، وما نود استدعاءه من فيوض القول لا يتجاوز التذَكُّر والتذكير. والصيام عبادة كتبت على سائر الأمم، وإن كان ثمة اختلاف ففي أمور لا تمس الجواهر والمقاصد، على أن الديانات السماوية حين طالها التحريف امتد إلى سائر العبادات، و(لابن حجر الهيثمي) بيان بصفة الصوم الذي كان واجباً على من كان قبلنا في كتابه (اتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام) وتحريه للخصوصيات من باب الاجتهاد إلا فيما ندر.
ومع أن الصيام ركن من أركان الإسلام فقد دخله التيسير كالحج {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}ومن رأفة الإسلام ورحمته فقد جاءت أحاديث العزائم والرخص للتخيير لا للتفاضل ومناط ذلك كله التيسير، ومثلما يكره الله أن تؤتى عزائمه فإنه يحب أن تؤتى رخصة. وحلاوة الحديث في قفو أحوال الناس وعاداتهم، فقد لا أكون مع رمضان كما الآخرين وذلك مكمن التطلع، إذ كل إنسان تلزمه عاداته كما طائره، ومن ثم فلم أقل نحن ورمضان، فالرجل وامرأته والأم وأولادها والإخوة والأخوات لكل واحد منهم شأنه الذي يغنيه عن شؤون الآخرين وتلك ميزة الشعيرة وتميزها وابتهاج الناس بها.
وكل إنسان له ما يخصه، فقد تلتقي الأسرة على المائدة، وكل يدٍ تمتد لها تشتهي، وقد يستظل الاخوة في المسكن الواحد ولكل وجهة هو موليها، وعلينا الاعتراف بالخصوصيات واحترامها، والتخلص من كبت النوازع الذاتية، فالتربية الحديثة تحث على المراقبة من بعد والاستدراج دون إكراه، وإذا أحس أحد أن له من العادات ما يدعو إلى إبدائها للفائدة والإمتاع كان عليه ألا يخفيها في نفسه، فالناس مغرمون بالمكاشفات وسبر الأغوار عبر السير الذاتية، وأحسبها لأهميتها تتصدر السرديات أهمية واشتياقا، وكلما تأوهت من خلالها أحسست بمن يستزيدني، وأنى لي أن أستجيب في ظل المشاغل والنسيان.
وتلك (الأيام) لطه حسين ليس فيها إلا ذلك الترسل الممتع والوصف الدقيق للحركة والسكون والأكل والنوم والقراءة وانتقاء المواقف المثيرة وغير المثرية، وليست عظمتها في مصداقيتها وإنما هي في عفويتها وبساطتها وتمثيلها لأسلوبه أدق التمثيل، من حيث الخصوصية الصوتية والتركيبية، وهي خصوصية اختلف الناس حولها، ولو قرئت أوراقه ورسائله التي طبعت أخيراً أو قرئ ما كتبه أحد ملازميه وهو الدكتور عبدالعزيز الدسوقي، أو قرئ كتاب زوجته (معك) لتبدت التناقضات بين مثالية الأيام وواقعية ما سواها.
ومن حق السِّيري انتقاء المحطات المفيدة والمثيرة، ونص (الأيام) يعد من أشهر النصوص المعاصرة، بل عدَّه البعض لحظةً تأسيسية لجنس السيرة الذاتية، وميزتها كما أشرت في البناء والانتقاء، ولقد قرأتها بأجزائها الثلاثة في أحد الرمضانات. وكان طه حسين حريصاً على إكمال عملين من أعماله (الأيام) و(الفتنة الكبرى) روى ذلك الدسوقي في كتابه (أيام مع طه حسين).
وعندما أبوح بشيء مما هو سِيْري لا أتطلع إلى سيرورة (الأيام) ولا إلى روعة الأداء فيها، ولكنني أزعم أن من حقي أن أبوح، وكل من أنس في محطات حياته ما يفيد كان عليه أن يمتلك الشجاعة على البوح، وليس البوح وقفاً على العظماء الذين غيروا وجه التاريخ ووجهته، فلقد أجد في حيوات الحمقى والمغفلين ونواد نجوم الفن وأسرارهم ولطائف ذوي العاهات وحكايات التطفيل ومفاجآت الظرفاء والساخرين ولذعات عقلاء المجانين ومغامرات المتماجنين وأعاجيب الفلاكة والمفلوكين، ومآسي من أدركتهم حرفة الأدب من البؤساء والمحرومين ونكت العميان وجبروت ذوي العاهات والمعوقين الذين غيروا مجرى التاريخ ما هو أجدى من مذكرات العلماء والساسة والمفكرين، فالنفوس مولعة بحب هذا اللون من المفاجآت، للحديث بقية.