هل تعتقد أن العالم العربي ينتظره مستقبل مشرق في القادم من الأيام؟ كان هذا سؤال بادرني به صديق بنبرة يكسوها قدر كبير من التشاؤم. وأجبته من غير تردد (بنعم) نطقتها بقدر كبير من التفاؤل، واتبعتها بقولي:
(.. وحتى أكون أكثر صراحة إنني أظن ذلك بشكل أكبر بكثير من أي وقت مضى).
ومصدر جزمي بذلك، أو لنقل ثقتي مردها إلى أن من سيقودوننا إلى تلك المرحلة المشرقة قد أفاقوا مؤخراً على حقيقة ووعي جديد، ومن ثم أصبح لديهم رغبة جامحة وصادقة للعب دور حقيقي لوضع لبنات المستقبل المشرق الوارف الضلال الذي سيحُف عمّا قريب العالم العربي برمته.
في الماضي القريب كان هناك عدد لا يستهان به من مثقفي العالم العربي الذين كانوا بمثابة جنود متوثبة للدفاع عن الأنظمة القمعية، وأبواق لها وللأنظمة البيروقراطية والاستبدادية الخانقة والبالية. وكانوا يحاربون لتحقيق الأهداف العليا التي اختطتها تلك الأنظمة، ويسخّرون كل إمكانياتهم في الترويج والتبشير بصواب المواقف والقرارات الرسمية غير المُسدّدة، وعلى الطرف الآخر كان هناك جزء آخر من مثقفي العالم العربي الذين جعلوا من أنفسهم أداة للأحزاب السياسية المتعددة، وأبواقا تناضل عن سياسات تلك الأحزاب وبرامجها وإن لم تكن تصب في مصلحة الوطن العليا، وإلى جانب ذلك نجد ذوي المصالح الشخصية التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لبناء مجدها الذاتي وتطلعها وتقديم ذلك على المصلحة العامة.
وهذه الأنواع الثلاثة: مثقفو السلطان، أو البلاط، ومثقفو الأحزاب، ومثقفو أنا ومن بعد الطوفان تقاعسوا في جهدهم هذا عن البحث عن الحقيقة، والمصداقية، والمهنية العالية، ودعم كل ما يقود إلى تحقيق الرفاهية لشعوب أبناء العالم العربي من محيطه إلى خليجه، ومساعدة مجتمعاتهم على التطور والرقي. ولكن الصورة في الآونة الأخيرة تبدو - كما أراها- مختلفة بعض الشيء؛ إذ معها نراهم وقد بدءوا يتسنمون أدواراً جديدة محلياً، وإقليماً، وعالمياً وهو ما دعاني إلى الظن جازماً أن ذلك سيقود لا محالة في نهاية المطاف إلى مستقبل مشرق لعالمنا العربي الكبير.
فعلى المستوى المحلي نرى المثقفين العرب وقد بدءوا بتحمل مسؤولياتهم، والإشارة إلى مواطن القصور في كل جانب من جوانب الحياة، وطرح الحلول العملية الواقعية من أجل التغلب على العديد من النواحي التي هي بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة وتشكيل. ومن هنا نراهم بشكل مختلف عما اعتدنا عليه سابقاً منهم يطرحون رؤىً وتصورات ليس فقط من أجل لفت الأنظار لذواتهم وعلى طريقة (خالف تعرف)، أو بغرض التصدي لقيم المجتمع وعاداته وتقاليده، أو من أجل كسب سمة الجُرأة في الطرح لا لغرض إلاّ لتحقيق شعبية وجماهيرية. ولم يعودوا منعزلين في زوايا ضيقة الآفاق، وإنما هم اليوم أكثر التصاقاً بهموم، ومشاكل، ومتطلبات مجتمعاتهم المحلية مما جعلهم أكثر التحاماً بمشاكل الجماهير وبالتالي أكثر قدرة على التعبير عن هموم المجتمع وطموحاته. وبالإجمال يمكن القول إن الكثير من مثقفي العالم العربي اليوم أضحوا يولون اهتماماً أكبر من ذي قبل لهموم الناس من حولهم، وأكثر وعياً وإدراكاً بمشاكل مجتمعاتهم، ويعملون ما في وسعهم للارتقاء بمجمعاتهم إلى وضع أفضل ممّا هو عليه، ولم يعودوا فقط مثقفين نخبويين محدودي التواصل والتفاعل مع حولهم، ومتقوقعين حول مدار تخصصاتهم العلمية الدقيقة.
وعلى المستوى الإقليمي كانوا في الأمس القريب دعاة التقوقع الوطني الذي لا يتسع لآفاق خارج نطاق حدود الوطن الصغير القائم بذاته من غير اكتراث للهم الوطني العربي الشامل، ولكننا نرى الكثير منهم اليوم يعملون من دون كلل، ويُسخّرون كل قدراتهم وإمكانياتهم للمساهمة في حل المشاكل العربية الأزلية سعياً في منح الأمة العربية لعب دور أكثر فاعلية في عالم اليوم. ونراهم يمدون أياديهم لمن يعنيهم الأمر لإيجاد حلول للمشاكل العربية العربية، ويدعون إلى إقامة سوق عربية مشتركة حرة، ويقدمون حلولاً لمشاكل اقتصادية واجتماعية وتربوية تعصف بالأمة العربية، وتحول دون تقدمها، ويدعمون بقوة ما يساعد على تقوية عرى الُلحمة والوحدة العربية، والتكامل الاقتصادي العربي. ولذا يمكن القول إن ما يشغل بال عدد كبير من مثقفي العالم العربي اليوم يكمن في إيجاد أرضية لمفاهيم فكريّة مشتركة حول الانتماء والهويّة، ومحاولة توصيف الواقع وأسباب مشاكله، والعمل على إسقاط عناصر التقسيم والتشرذم، ثمَّ العمل على وضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبل عربي أفضل موحدين في ذلك كله المتلازمات الثلاث: المنطلق، والأسلوب، والغاية. وأدوار المثقفين العرب الجديدة نراها أيضاً بارزة على المستوى الدولي، وبخاصة بعد إدراكهم لخطأ في حساباتهم وتقديراتهم التي أجروها في الماضي القريب. كان العديد من المثقفين العرب ينظرون للعولمة على أنها أداة لصهر الثقافات والقيم تحت مظلة القيم والمبادئ الأمريكية، أو بمعنى آخر أمركة القيم والمبادئ العالمية، وفي الوقت نفسه إلغاء ومسخ قيم ومبادئ الآخر، وهيمنة شركات بعينها على السوق العالمي الكبير. ولكن الزمن أثبت أن رأيهم هذا تنقصه الدقة، وبخاصة بعد أن لم يلمسوا انفتاحاً حقيقاً في الأسواق العالمية في مقابل القضاء على مثيلاتها المحلية تماماً، وكذلك عدم التطبيق الفعلي لعروض تسويقية للجمهور المحلي تقدمها الشركات العالمية القابضة، ولم يتم فرض قيم الآخرين على المجتمعات المحلية. وبعد أن أدركوا أن الانفتاح على العالم، والحوار الهادف البناء لا يلغي أبداً الهوية، وبعد أن لمسوا أن التماس مع الآخر يثري تجربة المثقف العربي مما يجعله أكثر قدرة على التواصل، وتبادل الخبرات العلمية والثقافية، وأن التوقف فقط عند إنجازات الآباء والأجداد واستدعائها في كل شاردة وواردة لم يعد يجدي نفعاً.
ومن هنا وجدنا تحولاً نوعياً في دعواهم إلى إجراء مزيد من الحوار والتفاهم، وبناء جسور من الثقة مع شعوب المجتمعات الأخرى، والمناداة بمحاولة الاستفادة والتعلم من تجارب أمم الأرض قاطبة. وهم بذلك مدفوعون بفكرة أن التعايش السلمي يؤدي دوماً إلى مزيد من الاحترام المتبادل بين الدول والثقافات. كما أن دور المثقفين العرب الدولي الجديد نراها أيضاً ماثلاً اليوم في محاولتهم تقديم صورة حقيقة عن اهتمام المواطن العربي بتطور، واستقرار، وسيادة الأمان، والرخاء للعالم أجمع، كما نراهم كذلك يسعون بكامل قواهم لاستعادة مجد الحضارة والثقافة العربية التي سادت يوماً ما.
وهكذا بما أننا نشهد اليوم ميلاد عصر جديد يطل برأسه على أرض وطننا العربي الكبير يقوم فيه ضابطو الحركة فيه، وصانعوها، وموجهوها، وقائدو المسيرة الاجتماعية بتبني أدوار أكثر فعالية وإيجابية ذات بُعد محلي وإقليمي، وعالمي، يأتي دور المواطن العربي، أو بعبارة أكثر دقة واجبه أن يعمل ما في وسعه من أجل مساعدة ودعم المثقفين العرب كي يؤدوا أدوارهم الجديدة الواعدة بكل كفاءة واقتدار.
alseghayer@yahoo.com