لئن كان لشهر رمضان هيبة في النفوس الصادقة، وفرحة في القلوب السليمة، فإن ثمة خللاً قد يوهن تلك النفوس ومرضاً قد ينخر تلك القلوب!! وأشد ما يقلل هيبة ذلك الشهر هو التسويف الذي يبدأ خدشاً ثم ما يلبث أن يتحول جرحاً نازفاً يحار المرء الحاذق في علاجه!!
وإن كان المسلم يفرح بدخول الشهر ويحتفل به ويستقبله بحماس وتوقد، فقد يجد في نفسه تثاقلاً وتوانياً وهو لا يخرج عن كونه تسويفاً. ولإحاطة علم الله تعالى بذلك من عباده؛ فقد ورد في الحديث الشريف تقسيم بديع لهذا الشهر بغية التحفيز والدافعية. فالعشرة الأولى منه رحمة والعشرة الوسطى مغفرة والأخيرة عتق من النار. والمسلم يظل مراوحاً بين طلب رحمته وطمع في مغفرته، ورجاء العتق من النار وإشفاق من لظاها وسمومها!!
وخالق الناس المطلع على السرائر أعلم بما جبلت عليه نفوسهم من حب الأكل، والرغبة في الدعة والتكاسل عن العمل والتراخي في العبادة والتسويف في أداء الواجبات الشرعية؛ لذا حثها على المسابقة فقال تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} كما حفزها على المباراة والمنافسة فقال عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وجعل الله شهر رمضان موسماً للمسلمين كافة ليتداركوا ما فاتهم من العبادات، ويتسابقوا في جمع الحسنات وتكفير السيئات, وبعدها يأتي الأجر بمقدار العمل وتقدير العلي القدير الذي قال في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) حيث يتجرد بهذا الشهر القصد وتنصرف النية لله عز وجل حين يكون الصيام والقيام خالصاً له، ويصبح العمل خبيئة لا يراها إلا الله، وحسبك من عبادة مخبأة في الصدور! فعبادة القلب في رمضان بالذات تسبق عبادة البدن!!
وإن كان شهر رمضان يمثل للناس حرماناً من الأكل، والشرب، فإنه أيضاً يعد شهراً للتوقف عن الركض واللهث وراء الملذات، وهو بلا شك موسم سنوي لاستشعار قيم عالية تتمثل بالعبادة والعمل، وممارسة الصبر، وتهذيب النفوس ومحاسبتها، وتغيير السلوك للأفضل، وفرصة للاقتصاد في الاستهلاك الشخصي، وبالمقابل البذل في الصدقات! ومن الجميل إدراك أن الفرائض الإسلامية ليست واجبات دينية يؤديها المسلم وتعبر دون أن يستلهم منها المغزى الحقيقي والدرس التربوي، ويستشعر الجانب التوجيهي فيها، وليس من ظاهرها فقط! ولئن كان رمضان يأتي كل عام، فلابد أن يومض بريقه حقاً في صدورنا ليضيئها، ويلامس حواسنا لتنبسط أيدينا بالبذل والعطاء! ويجدد الهمة نحو أعمال الخير لتزكو نفوسنا وتتهذب أخلاقنا.
وبعدها... يمكننا أن نهنئ من كانت مكاسبه في الآخرة تفوق مكاسبه في الدنيا!!
rogaia143@hotmail.Com
ص. ب 260564 الرياض 11342