..يظن بعض الناس أنه عيد كما تفعله بعض الأمم، لكن عبد العزيز - يرحمه الله - لا يرتضي ذلك، ولم يخطر بباله. وهذه البلاد منذ ارتقى سدّتها وهو يتباعد عن كل أمر يتنافى عن منهج الإسلام، كما يبين من خطابه وكلماته، ونموذج ذلك ما جاء في كتاب: المصحف والسيف، وما يتحدث به في مجالسه وتصدقه أفعاله.. وما سار عليه أبناؤه من بعده؛ لأنهم يرون ألا عيد إلا ما شرعه الله، ورسوله: عيد الفطر وعيد الأضحى.....
.....وإن من الواجب على كل فرد منا أن يشكر الله ما تفضل به من النعم، وبالشكر تدوم النعم، يقول سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم.
فالله سبحانه قد تفضل على هذه البلاد وأهلها بأمور كثيرة، أبرزها أن جعلنا مؤمنين، واختصنا بمجاورة المقدسات الإسلامية وأولها بيته المحرم، ونحمده أن أعاننا على طاعته: فهماً وعلماً وتطبيقاً، وجعل بين ظهرانينا علماء ربانيين يقفون عند حدود الله، ويترسمون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتأسون بسلف الأمة.
ومع هذا منحنا اللهُ قادة، هم ولاة الأمر، حريصين على مسيرة باني نهضة هذه البلاد، وموحّد شملها على حقيقة التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، الملك عبد العزيز - يرحمه الله - الذي أفنى زهرة شبابه في السعي لما فيه مصلحة البلاد والعباد حتى ينقلها من أطوار إلى أطوار: من التطاحن والجهل والفُرقة إلى الأخوّة والوحدة وإقامة شرع الله.. ومن البداوة والنزعات الفردية إلى الحضارة والأخذ بأسباب العلم والتطور والتآلف والمحبة، فأبدل فقرهم غنى، وجهلهم علماً، وفُرقتهم تجميعاً وأمناً.
وقد مر - يرحمه الله - في هذه المسيرة بدورين: الدور الأول: دور التأسيس ولمّ الشمل في وحدة متناسقة بين أطراف الجزيرة، فبعدما يقرب من ثلث قرن، قضاها في مشوار توحدت به القلوب، قبل أن تتوحد البلاد، ومكّن فيها أساساً لإقامة شرع الله مقترناً مع توطيد الأمن، فحقق الله الألفة مع جهوده في القضاء على النزعات الجاهلية، فأصبحت - بفضل الله - القبائل التي تتقاتل بدون هدف تمثل أخوة الإسلام في المودة والإخاء، وصار التعدي والتسلط يحتكم إلى شرع الله ويرضى به، فقد كانت خواطر عبد العزيز - يرحمه الله - بعيدة المرمى؛ إذ ما انتهى دور التأسيس وتركيز الدعائم الأمنية إلا وقد وضع خطة التنظيم، في دولة فتية، لكي تأخذ بأسباب الاحتذاء بالدول الآمنة المستقرة: شكلاً ومضموناً فبدأت منذ عام 1344هـ الخطوات الأولى فيما يحقق راحة المسلمين الذين ترنو أفئدتهم إلى هذه الديار التي أصبحت تحت إدارة الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لأداء الركن الخامس: وهو حج بيت الله الحرام، وما يوليه ثم بنوه من بعده من عناية، فطمأنهم باستتباب الأمن وتحقق أسباب راحتهم وحمايتهم منذ تطأ أقدامهم الموانئ التي يسّرها لهم بكل الملتزمات حتى يعودوا لبلادهم سالمين غانمين، فأحدث هذا صدى ذلك، وشعوراً بثّوه في بلادهم بحماسة غيرت المفاهيم، وظهرت آثار ذلك إعلامياً وتزايداً في الحجاج والعمار، وبمقارنات تقرّب المعقول بالمحسوس..
ولكي تتحقق طموحات هذا الملك المصلح، وتتحول هذه الطموحات إلى عمل مثمر مستديم، كان لا بد من وضع أنظمة تسير بها أعمال الدولة، فتوالت التنظيمات، والأسس التي ترتكز عليها المسيرة. وتفاعل المواطنون؛ فقد ذكر عبد الله الزامل في كتابه (أصدق البنود في تاريخ عبد العزيز آل سعود) أنه: في صباح يوم الخميس 22 جمادى الثانية سنة 1344هـ - بعث أهل الحجاز وفداً، معه من قِبلهم إلى عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود خطاب موقع من جميع أهل الحل والعقد في سائر أنحاء المملكة، مترجمين الإنعام عليهم، بتعيين وقت عقد البيعة، عند البيت المعظم، فأجابهم إلى طلبهم، وقد تم ذلك في يوم الجمعة 23 جمادى الثانية عام 1344هـ الموافق 8 يناير عام 1926م.. وقرأ النص الشيخ عبد الملك مرداد (يراجع هذا الكتاب بالتفاصيل من (ص 198- 207).
فتوالت بعد ذلك التنظيمات والأسس التي تثبّت الدولة وترسخ دعائمها.
ولأن اليوم الأول من الميزان الذي صدر به نظام توحيد المملكة يصادف 23 سبتمبر - أيلول، هو يوم 23 رمضان هذا العام، الذي يطل على المسلمين، بعد ساعات وليال قصيرة، هو الموافق لاختيار الملك عبد العزيز يرحمه الله لإعلان توحيد هذه المملكة المترامية الأطراف، التي بحمد الله أثبتت وجودها في المحافل الدولية، وتحتل مكانة عالية في قلوب المسلمين على وجه الأرض، حيث تستقبل منهم الملايين سنوياً حجاً وعمرة، وقامت بمشروعات عملاقة لاستيعابهم براحة واطمئنان: في مكة المكرمة، والمدينة المنورة.. فإن من التحدث بنعمة الله ذكر نظام توحيد المملكة، كما جاء عند خير الدين الزركلي في كتابه: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز؛ حيث يقول:
نظام توحيد المملكة: بعد الاعتماد على الله، وبناء على ما رفع من البرقيات من كافة رعايانا، في المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها، ونزولاً على رغبة الرأي العام في بلادنا وحباً في توحيد أجزاء المملكة العربية أمرنا بما هو آت:
المادة الأولى: يحول اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها، إلى اسم: (المملكة العربية السعودية)، ويصبح لقبنا بعد الآن (ملك المملكة العربية السعودية).
المادة الثانية: يجري مفعول هذا التحويل اعتباراً من تاريخ إعلانه.
المادة الثالثة: لا يكون لهذا التحويل أي أثر على المعاهدات والاتفاقات والالتزامات الدولية التي تبقى على قيمتها ومفعولها، وكذلك لا يكون له تأثير على المقاولات والعقود الإفرادية، بل تظل نافذة.
المادة الرابعة: سائر النظامات والتعليمات والأوامر السابقة والصادرة من قِبلنا تظل نافذة المفعول بعد هذا التحويل.
المادة الخامسة: تظل تشكيلات حكومتنا الحاضرة في الحجاز ونجد وملحقاتها على حالها الحاضرة مؤقتاً إلى أن يتم وضع تشكيلات جديدة للمملكة كلها، على أساس التوحيد الجديد.
المادة السادسة: على مجلس وكلائنا الحالي الشروع حالاً في وضع نظام أساسي للمملكة، ونظام لتوارث العرش، ونظام التشكيلات الحكومية، وعرضها علينا لاستصدار أوامرنا فيها.
المادة السابعة: لرئيس مجلس وكلائنا أن يضم إلى أعضاء مجلس الوكلاء أي فرد أو أفراد، من ذوي الرأي، حين وضع الأنظمة السالفة الذكر؛ للاستفادة من آرائهم، والاستعانة بمعلوماتهم.
المادة الثامنة: إننا نختار يوم الخميس 21 جمادى الأولى من عام 1351هـ الموافق اليوم الأول من الميزان يوماً لإعلان توحيد هذه المملكة العربية، ونسأل الله التوفيق.
صدر في قصرنا بالرياض، في اليوم السابع عشر من جمادى الأولى سنة 1351هـ.
التوقيع عبد العزيز
بأمر جلالة الملك، نائب جلالته: فيصل
أقول ويوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ، يوافق الخميس 22 سبتمبر - (أيلول) 1932م، وذلك لأن أول جمادى الأولى، هو يوم الجمعة في 2 سبتمبر (ص 565 - 566 الجزء الثاني).
وقد سبق ذلك رغبات من الأهالي في مكة المكرمة، وفي الرياض، بتغيير اسم الدولة من السلطنة النجدية إلى ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها ثم إلى ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، ثم اختير هذا الاسم الذي يجمع أنحاء البلاد ويدل على وحدتها (المملكة العربية السعودية). وقد رُفعت إلى الملك بعد إعلان الاسم ونظامه برقيات من جهات مختلفة في معنى القرار الآنف ذكره، تؤيد فكرة توحيد أجزاء المملكة، وتسميتها باسم لا (إقليمية) فيه ولا تفريق بين قطر وآخر، وكان ذلك ما يجول في نفس عبد العزيز فصدر الأمر الملكي بنظام توحيد المملكة، ثم سار التنظيم في المجالات العديدة وأنظمتها، مما هو في مصلحة المواطن والمسيرة النظامية في البلاد، وفق متطلبات العصر. أدام الله على البلاد أمنها ورفاءها، وكفاها شر الأعداء.
عفا عنه فبكى:
قال التنوفي: وجدت في بعض الكتب أنه لما حصل إبراهيم بن المهدي في قبضة المأمون لم يشك هو وغيره في أنه مقتول، فأطال حبسه في مطمورة، وهي حفيرة من الأرض ضيقة، بأسوأ حال وأقبحها.
قال إبراهيم: فأيست من نفسي ووطّنتها على القتل، وتعزيت عن الحياة حتى صرت أتمنى القتل للراحة من العذاب، وما أؤمله في الآخرة من حصول الثواب. فبينما أنا كذلك إذ دخل علي أحمد بن أبي خالد مبادراً، فقال أوْصِ فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك، فقلت أعطني دواة وقرطاساً، فكتبت وصية، ذكرت فيها كل ما احتجت إليه، وأسندتها إلى المأمون ووالدتي واسمها (شكلة) وتوضأت، فصليت ركعات، ومضى أحمد.
ولما فرغت من الصلاة وجلست أتوقع القتل عاد إلي أحمد بعد ساعتين فقال: أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول لك: أنا أحمد الله - جلت قدرته - الذي وفقني لصلة رحمك والصفح عنك، وقد أمّنتك.. ورد علي النعمة، وجميع الضياع، والأملاك.. وأمرني بالانصراف إلى داري.
فبدأت أدعو للمأمون، وغلب البكاء علي والانتحاب، وهو يطالبني بالجواب، وأنا غير متمكن منه.
فقال لي أحمد: لقد رأيت منك عجباً، أخبرتك أني أمرت بضرب عنقك فلم تجزع ولم تبك، ثم أخبرتك بتفضل أمير المؤمنين عليك، وصفحه عنك فلم تتمالك من البكاء.
فقلت له: أما السكوت عند الخبر الأول فلأني لم أتوسم منذ ظفر بي أن أسلم من القتل، فلما ورد علي ما لم أشك فيه لم أجزع له، ولم أبك.. وأما بكائي عند الخبر الثاني فوالله العظيم شأنه ما هو عن سرور بالحياة ولا لرجوع النعمة.. وما بكائي إلا لما كان مني من قطيعة رحم من عنده - بعد استحقاقي منه القتل - مثل هذا الصفح، الذي لم يسمع لا في جاهلية، ولا إسلام، بأن أحداً أتى بمثله.
فقد حاز أمير المؤمنين الثواب من الله تعالى في صلة رحمه، وأظهر حلمه جهلي، وفضله نقصي، وجوابي هو ما شاهدت وسمعت.. فرجع أحمد إلى المأمون فأخبره، ثم عاد إلي بمال وخلع وركوب فانصرفت إلى داري ونعمتي. (الفرج بعد الشدة 3: 340 -341).