وقفَ أربعة من أهل القرية على ضفة النهر المزمجر قد أقلقهم ذلك الفيضان الذي يوشكُ على إغراقهم ومسح القرية من الوجود وأخذوا يتأملونَ ذلك الخليط العجيب من حطام القرى الأخرى ومن جثث الغرقى أو المشرفين على الغرق، ومن الزوارق الكثيرة التي يتراوح ركابها بينَ ناجين بأنفسهم لا يلوون على أحد، أو منقذين يبذلون النزرَ اليسير من استطاعتهم في ذلك الموقف العصيب، أو لصوصٍ انتهازيين يطوفونَ بزوارقهم في تلك الفوضى فيسلبون الأموات ويسترقُّون المستضعفين من الأحياء وينهبون المساكن المنكوبة، وكان للأربعة ردود فعل متباينة تجاه هذا الحدث المخيف.
ف(الأول) ابتسم في وجه الطوفان الهادر وقال: هنيئاً لك كوخي الذي دمرته وزرعي الذي جرفته هذه السنة فقط، أعدك ألا يتكررَ ذلك أبداً!. إنَّ لديَّ من الهدايةِ والعلمِ والمقدرة والعزيمة ما يمكنني من استغلالِ غزارةٍ هائلةٍ كهذه ببناءِ بسدٍ كبير يولدُ الكهرباء ويروي البشرَ والشجر حتى تتسعَ حقول قريتنا ويتحول أذاك إلى نفع وشرُّك إلى خير، وسنبنيَ على شاطئ البحيرة مصنعاً للسفن ومرفأً يصلنا مع العالم عبرَ هذا المجرى الواسع العميق فلا تنقطعُ عنا المؤن ولا يمكنُ لأيةِ كارثةٍ أن تحاصرنا ولا أن تحاصر القرى المجاورة، وإن متُّ قبلَ إنجاز هذا المشروع الضخم فحسبي أنني أعذرتُ نفسي أمامَ خالقي ووضعت لأبنائي وأحفادي أساس بقائهم ونجاحهم، ثمَّ انصرف من فوره إلى إنقاذِ كلِّ ما يمكنُ إنقاذه.
وأما (الثاني) فهرولَ مذعوراً إلى الحقل الصغير المحيط ببيته وأخذ يرفعُ حوله حاجزاً هائلاً من التراب حتى إذا صارَ الحاجزُ أعلى من قامته وحجبَ عنه مشهدَ الأمواج المتلاطمة هرولَ إلى كوخه ووضع قطناً في أذنيه ثم جلسَ مطمئناً أو يوهمُ نفسه الاطمئنان وصارَ يخرجُ رأسه بين الحين والآخر من النافذة ويرمقُ حاجزه بعين الفخر والاعتزاز ثم يشتمُ النهرَ المتمرِّد الذي كان يحتُّ الحاجزَ من القواعد دونَ توقُّف.
وأما (الثالثُ) فقال في نفسه: من أنا في مواجهة هذا النهر العظيم الجارف؟ فيمَ العناد ومقاومةُ الطبيعة؟ ألا تباً للأجداد الذين سكنوا في هذه البقعة المنخفضة ولم يحسبوا حساباً لهذا اليوم البئيس، ثمَّ ألقى نفسه في الماء وأخذ يصرخ وينادي أصحاب المراكب العابرة النجدة! النجدة! خذوني معكم إلى أي مكان، اصطحبوني في مراكبكم بحاراً أو خادماً أو عبداً، أو اقتلوني في الماء ووفروا عليَّ آلام الغرق، لحظات رعبٍ لا تصدق ما لبثت أن انقضت، ثم وجدَ نفسه جافاً دافئاً وموثقاً في عنبر البضائع المظلم!.
وأما الرابع فقد عزَّ عليه أن يترك كوخه وكبُرَ عليه الاعترافُ بالهزيمة أمام النهر وأن يعلنَ تسوُّلَ النجاةِ في أي مركب... وهكذا أحضرَ حبلاً عظيماً وربطه حولَ كوخه وأخذَ يصرخ وينادي أصحاب الشهامة والمروءة من أصحاب المراكب الكبيرة أن تعالوا فاسحبوني أرجوكم! أنا لستُ انهزامياً يتخلى عن كوخه للنهر ولستُ طفيلياً معدماً يرضى بالصعود في أي مركب! لا تسحبوني مجاناً خذوا أي أجرٍ تشاءون!
ولم يكن يقطعُ صراخه المستمر إلا فواصلُ مضحكةٌ مبكية من الوقوف على البر وتقليد حركات التجديف والسباحة في الماء، أو الإمساكِ بالحبلِ ومحاولة جرِّ الكوخ إلى الشاطئ وتقريبه من المراكب العابرة.
فأي الأنماط الأربعة تختار عندما تداهمك المشكلات وتزورك المصائب؟