«الجزيرة»- وهيب الوهيبي -
شهدت العاصمة الرياض حواراً فقهياً ساخناً نظمه موقع الفقه الإسلامي شارك فيه نخبة من الفقهاء والعلماء يمثلون جهات علمية وجامعات شرعية وقضائية ناقشو من خلاله أحكام شراء مساكن للفقراء من أموال الزكاة.
وكان موقع الفقه الإسلامي قد أعد ورقة علمية متكاملة بحث فيها مسألة بناء المساكن من أموال الزكاة بالأدلة الشرعية مستشهداً بأقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين والمجامع الفقهية وتوصل فيها إلى أن المسألة مختلف فيها على قولين بالجواز والمنع.
وطرح هذه المسألة على طاولة الفقهاء للتعليق وإبداء الرأي حولها
مداخلة د . أحمد بن حميد
الدكتور أحمد بن حميد أستاذ الفقه في الدراسات العليا جامعة أم القرى
قال: المسألة لي معها وقفتان:
الوقفة الأولى: أن إدراج كلمة (بناء) أو (تمويل) لا أثر لها في حكم المسألة المراد بحثها، بل المقصود هو إيجاد المساكن عن طريق البناء أو غيره.
الوقفة الثانية: لابد من تحديد محل النزاع في هذه المسألة، - وكما يقول علماء الأصول ليتوارد النفي والإثبات على محل واحد -، فهل المقصود إيجاد مساكن ليسكن فيها الفقراء دون أن يملكوها، فمن كان محتاجاً منهم سكن فيها، ومن استغنى عنها خرج منها وسكن فيها غيره.
وحينئذ فالذي يظهر دخولها تحت الخلاف في مفهوم مصرف في سبيل الله، ومثلها بناء المستشفيات وحفر الآبار لهم والخلاف في مفهومه قد استقر.
أو أن المقصود تمليكهم إياها بحيث تصبح ملكاً خاصاً للفقير يتصرف فيها تصرف الملاك، وحينئذ فالنظر فيها لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتولى رب المال إيجاد المسكن للفقير، فبدلاً من أن يدفع رب المال لهذا الفقير مالاً، فإنه يوجد له منزلاً ويملكه للفقير على أنه زكاة، وبعبارة أخرى أن يخرج الزكاة مساكنا.
فهذا لا يجوز على رأي الجمهور، بل يجب دفع المال للفقير ثم هو يتصرف فيه بحسب حاجته، وهذا هو الأقرب - إن شاء الله -، فإن القول بجوازه وإن ظهرت مصلحته في بعض الصور الفردية كما إذا كان الفقير لا يحسن التصرف، أو خشي استخدام الفقير للمال استخداماً محرماً، فهذا لا يكون مبرراً للقول بالجواز، بل يمكن إذا أراد الفقير طعاماً أو ثياباً ونحوها، وكان لا يحسن التصرف، فإن المزكي يأمره أن يوكِّل شخصاً يدفع الزكاة إليه، ثم الوكيل يشتري للفقير ما يحتاجه.مع مراعاة أنه لا يجوز على رأي الجمهور أن يعطى الفقير أكثر من كفايته لسنة، وإن كان الصحيح جوازه كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد بين الباحث الكريم ذلك الحال الثانية: أن يتولى بيت المال إيجاد المساكن للفقراء من أموال الزكاة ويملكها إياهم، لأن بيت المال وكيل عن الفقراء في قبض الزكاة عنهم، وله التصرف في ما فيه مصلحتهم، قال الإمام مالك - رحمه الله - (الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي الخليفة أو نائبه).
مداخلة د . حمزة الفعر
الدكتور حمزة الفعر عضو مجلس الشورى علق على الموضوع واوضح:
إن حاجات الفقراء متعددة لا تنحصر في الغذاء والكساء، بل تشمل المسكن أيضاً فهو من الأمور الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها، ولم يرد في نصوص الشرع ما يوجب حصر حاجة الفقير في الغذاء فحسب، بل إن النصوص الشرعية تتسع في نظري لمثل هذا المطلب، ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن وأمره أن يعلمهم بفرضية الزكاة وقال له: (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)، وهذا الرد على الفقراء يشمل بنص كل حاجاتهم ومنها توفير السكن، ولكني أرى أنه لابد من مراعاة الضوابط التالية:
- لابد من المواءمة بين الحاجات العاجلة، وغيرها. فإذا كانت هناك حاجة لدى كثيرين لسدّ جوعتهم حتى لا تذهب نفوسهم، أو لستر عوراتهم، أو لعلاجهم من مرض يتهددهم فإنه لابد من إعطاء هذه الحاجات الحق في التقديم على غيرها.
- أن تقدم الحاجات العامة على الخاصة، فيقدم بناء الملاجئ ودور الأيتام والعجزة ومن في حكمهم ممن لا يجدون مسكناً يأوون إليه على بناء المساكن الخاصة؛ لأن الأولى نفعها متعدٍ والثانية نفعها قاصر.
- أن يكون البناء بما يكفي لسد حاجة المسكن من غير إسراف ولا زيادة.
- أن تتولى الجمعيات والهيئات المختصة بشؤون الزكاة تنفيذ هذا الأمر، وألا يترك للفقراء أنفسهم؛ لأن الجمعيات والهيئات تملك خبرات جيدة في جودة التنفيذ وقلة التكاليف، التي لو أعطيت للفقراء مباشرة لأضاعوها وما استطاعوها إلا بكلفة كبيرة.
مداخلة د . توفيق الشريف
علق الدكتور توفيق الشريف أستاذ الفقه بجامعة أم القرى وقال أرى أنه يجوز صرف أموال الزكاة للبناء وتمويل البناء للفقراء والمساكين. بل إن ذلك من أفضل وأحسن وأنجع الحلول لمشكلة الفقر في هذا العصر.
وذلك لما يلي: إن أعظم هم وغم ومعاناة يعانيها من ابتلاه الله بقلة ذات اليد وشح في مدخراته هو هم السكن والمكان الذي يلتجئ إليه ويأوي إليه هو ومن يعول، وإن الناظر والمتابع لأحوال كثير من الفقراء والمساكين يجدهم لا يسألون الناس المساعدة إلا ليدفع إيجار المنزل والبيت الذي يسكن فيه ويهدده صاحبه بالطرد في كل يوم وليلة. إضافة إلى ذلك فإن الفقير وصاحب الحاجة إذا أمن هو ومن يعول في بيتٍ ومنزل حتى لو كان متواضعاً جداً فإنه يزول عنه شبح السكن ويبدأ بالبحث عن عمل يتكسب منه حتى ولو كان الكسب قليلاً لأنه يعلم أن التكاليف التي يتحملها قليلة فلا يلجأ إلى التسول والبحث عن الصدقات والزكوات ويحاول سد كل ما يحتاجه بنفسه وبعمله.
- أدلة القائلين بجواز صرف أموال الزكاة لبناء المساكن للفقراء وتعليلاتهم وجيه جداً وتراعي مصلحة الفقير الذي يبحث عن مأوى يستره ومن يعول عن الحر والبرد وهذه من أشد الحاجات بل هي أشدها التي يهتم بها الإنسان، وما عداها أيسر وأسهل.
- إن هذا الموضوع يتعلق بحاجة من الحاجات الأصلية للإنسان وهي السكن التي لا يمكن للمرء أن يعيش بدونها، قال سبحانه وتعالى:(جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)، وروي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ثلاث من السعادة، المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)، وأن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشكلات التي يجابهها المرء وخاصة الفقير في حياته ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان وغلاء الأسعار. فحينئذ يجوز أن نساعده من صندوق الزكاة إن كان مستحقاً لها، وهذا الذي يوافق الروح الإسلامية وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة والمساعدة على الخير والتعاون على البر..
مداخلة د د يوسف الشبيلي
من جانبه أشار الدكتور يوسف الشبيلي عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء أن الذي يظهر جواز ذلك لأن المقصود من الزكاة دفع حاجة الفقير، والفقير كما أنه محتاج إلى المال والأكل والشرب واللباس فهو يحتاج أيضاً إلى مسكن يأوي إليه وكونه قد يدفع حاجته بالاستئجار فمن المعلوم أن الاستئجار لا يقوم مقام التملك ولا يقوم به دفع الحاجة بالصورة الكاملة والمناسبة، والله تعالى شرع الزكاة لرفع الحاجة عن الفقراء وهذا لا يتحقق إلا بتمليكهم المساكن.
وإذا لاحظنا أيضاً أن في تمليكهم المساكن مصلحة لهم بدلاً من إعطائهم المال فلربما صرفه الفقير بأمر لا فائدة منه أو في الكماليات بخلاف ما إذا ملك بيتاً. فيتحقق بتمليكه مقصداً من أهم مقاصد الزكاة وهو توفير السكن المناسب للفقراء.
ولا مانع في تمليكه بشراء مسكن لهم من أموال الزكاة الاتفاق مع مقاول لبناء المسكن، الشرط المهم أن يكون تمليك الفقير لهذا المسكن ليسكن فيه لا للمتاجرة فيه، فإذا علم أن الفقير يأخذ المسكن ليتاجر فيه فلا أرى أن يعطى من الزكاة لشراء منزل له بل يعطى نقوداً لدفع الحاجة والمسغبة.