تسعى حكومة خادم الحرمين الشريفين- حفظه الله - إلى توفير البيئة المناسبة للتعليم الجامعي ليحقق أهدافه العديدة، وعلى رأسها وضع المملكة ضمن مصاف الدول المتقدمة في مجال البحث العلمي الرصين. ولعل موافقة مجلس الوزراء على إضافة بعض البنود المتمثلة في حزمة من المكافآت التشجيعية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات والكليات السعودية من الأدلة الملموسة على اهتمام الدولة - حفظها الله - بالتعليم ومنسوبيه.
وفي هذا المقال أقف عند بعض بنود هذه اللائحة في محاولة لدراسة أبعادها النفسية والأكاديمية عند المنتمين للوسط الأكاديمي.
الوقفة الأولى: لا يبدو لي أن بند (مكافأة التميز) يخدم البحث العلمي بمفهومه الواسع، وهدفه السامي في إثراء المعرفة البشرية. إن ربط البحث العلمي بالحصول على جائزة سيؤدي إلى حصر مفهوم وأهداف البحث العلمي الأصيل بالحصول على جائزة محلية أو إقليمية أو دولية! ماذا عن تلك البحوث التي ليس لها جائزة محلية أو إقليمية أو دولية؟ هل هناك حقاً جوائز محلية تتسع لكافة روافد البحث العلمي؟ ماذا عن تلك البحوث التي لا تفوز بمثل هذا الجوائز؟ هل هي عديمة الفائدة ويجب إهمالها وإشعار أصحابها بأن لا يكرروها؟ هل الحصول على جائزة هو مقياس تطور البحث العلمي الوحيد عند وزارة التعليم العالي؟ تعاني حركة البحث العلمي في المملكة من ركود بسبب أن الكثير من الباحثين في مؤسساتنا الأكاديمية لا يجدون من يدعم بحوثهم سواء تلك المقدمة للترقية العلمية أو تلك المقدمة للنشر من أجل إثراء المعرفة الإنسانية. لقد كان من المستحسن جداً أن يصرف هذا البند لمن ينشر بحوث في مجلات علمية محكمة محلية ودولية، وهذا بدوره سيسهم تلقائياً في تطوير حركة البحث العلمي داخل وخارج الجامعة دون الحاجة إلى اشتراط (الجائزة) كمعيار للتميز. يوجد من الباحثين السعوديين ممن نشروا وينشرون بحوثهم وكتبهم على مستوى العالم، في الوقت الذي يرون فيه بعض زملائهم في المهنة وقد اتجهوا للتجارة والأعمال الحرة، وهجروا البحث العلمي. أليس من التميز أن يتم تمييز هؤلاء الباحثين- ممن أثروا المعرفة البشرية دون الحصول على جائزة- عن غيرهم ممن هجر البحث العلمي؟ كذلك يحتاج هذا البند لبعض التوضيح. هل يصرف البدل مرة واحدة أم أنه يصرف طوال خدمة عضو التدريس في الجامعة؟ إذا كان سيصرف لعضو التدريس طوال خدمته في الجامعة، فهذا يعني أن عضو التدريس ليس بحاجة لمزيد من الجوائز ليضمن استمرار بدل التميز!! سيؤدي مفهوم التميز عندئذ إلى مفهوم أخر، وهو (الكسل) بعد غياب الدافع المتمثل في الجائزة!
الوقفة الثانية: مكافأة نهاية الخدمة كانت من البنود التي مست الجرح الذي يعاني منه الكثير من الأكاديميين - خصوصاً الفئة الكادحة منهم. من شأن هذه المكافأة أن تساعد الكثير منهم في توفير السكن المناسب لهم بعد تقاعدهم، ومغادرتهم لمساكنهم الممنوحة لهم من الجامعات والكليات. ولكن، طريقة صرف هذه المكافأة مبهم. هل تصرف لعضو التدريس بدءاً من تاريخ تعينه كمعيد أم من تاريخ حصوله على الدرجة العلمية، ماجستير وما فوق؟ أرجو أن تصرف له من تاريخ تعينه في الجامعة لأنها في الواقع من سنوات خدمته للجامعة أو الكلية التي يعمل بها. كذلك يشترط لصرف هذه المكافأة أن يتم عضو التدريس عشرين سنة في الخدمة. ماذا لو توفى عضو التدريس بعد أن أمضى 17 سنة في الخدمة؟ هل يحرم منها ورثة عضو التدريس الذين ربما يكونون في أمس الحاجة لها بعد فقدان عائلهم؟ يحتاج عضو التدريس أن يضمن أن أسباب خارجة عن إرادته مثل الوفاة والعجز الجسدي لن تحرمه وعائلته من هذه المكافأة، وأنها حق له لأن هذه الأسباب حصلت له أثناء وجوده على رأس العمل. لذا أقترح وبقوة أن تصرف هذه المكافأة لعضو التدريس دون اشتراط 20 سنة خدمة في حال وفاته أو عجزه.
الوقفة الثالثة: بدل الندرة. أخشى أن يؤدي هذا البند إلى تأزم في علاقات الأكاديميين على مستوى الجامعات والكليات. إن هذا البند مبهم، إذا جاز التعبير، ويتوقف على اللجنة التي ستناط بها تحديد شروط الندرة هذه. هل يقصد بهذا البند ندرة التخصص العلمي أم ندرة الأساتذة الحاصلين على هذا التخصص؟! ما هي الأسس التي يمكن أن تحدد تخصص بأنه نادر وغيره غير نادر؟ أرى أن جميع التخصصات الجامعية هي نادرة لأن من يشغلها يستحق أن يطلق عليه (نادر) لأنه توصل لهذه المكانة العلمية بعد سنوات طويلة من العمل الشاق. ليس من التوقير والاحترام أن نقول لعضو التدريس أنك لا تستحق هذا البند (لأنك وتخصصك غير نادرين)، ثم نطالبهم بالتميز! هذا تناقض شديد في القول والفعل. كذلك، سيكون هناك ظلم شديد في حال تطبيق هذا البند على أساتذة التعليم العالي ممن تصرف لهم مكافأة (الحاسب الآلي)، وحرمان غيرهم ممن لم يوفقوا في الحصول على مكافأة الحاسب الآلي من هذا البند. سيؤدي هذا إلى مضاعفة راتب فئة من أعضاء هيئة التدريس ممن تصرف لهم مكافأة الحاسب الآلي على حساب فئة أخرى. مثلاً، لو أن تخصص عضو التدريس في كلية الحاسب الآلي قد صنف على أنه (نادر)، وأن تخصص عضو التدريس في كلية العلوم الاجتماعية قد صنف على أنه غير (نادر)، سيحصل عضو تدريس الحاسب الآلي على مكافأتين: مكافأة الحاسب الآلي ومكافأة الندرة، وهو ربما ما يعادل 65% من الراتب الأساسي، بينما لا يحصل عضو تدريس كلية العلوم الاجتماعية على أياً من هاتين المكافأتين. بالتأكيد سيؤدي هذا إلى خلل في نظام العدل بين أعضاء التدريس، وتهميش أدوار بعضهم مما ربما يؤدي إلى قتل روح المنافسة لديهم. لتجنب هذا الخلل، أقترح على اللجنة التي ستتولى تحديد (بدل الندرة) أن تحدد نسب للندرة تشمل كافة التخصصات العلمية. مثلاً، يتم منح العلوم الإنسانية نسب ندرة تتراوح من 20% إلى 30%، والتخصصات العلمية نسب من 30% إلى 40%. هذا من شأنه أن يحقق توازن بين ندرة التخصصات، وتحد من تهميش دور بعض التخصصات العلمية ومن يشغلها، وتضمن لهم بعض التقدير.
الوقفة الرابعة: بند (بدل تعليم جامعي). هل قيام عضو التدريس في الجامعات بتدريس نصابه من الساعات من الأمور المستحبة؟ هل سيكون لدى عضو التدريس، لنقل أستاذ مشارك، الوقت للتميز في مجال البحث العلمي وهو يدرس 12 ساعة كل فصل دراسي ليضمن حصوله على هذه المكافأة؟ يبدو لي أن في هذا البند محاولة لحل مشكلة تسرب أعضاء التدريس على حساب البحث العلمي وجودة التدريس وخدمة عضو التدريس للمجتمع. للأسف الشديد لن يحل هذا البند مشكلة قلة أعضاء التدريس وتسربهم. أيضا أرى أن هذا البند فيه إجحاف في حق أساتذة التعليم العالي في بعض الكليات التي لا يكتمل فيها نصاب عضو التدريس، أما لوجود مدرسين يوزع فيما بينهم النصاب أو لأن الكلية المعنية لا يوجد بها ساعات كافية تجعل من عضو التدريس يبلغ نصابه في التدريس كما هو محدد لأساتذة الجامعات والكليات.
الوقفة الخامسة: مكافأة الوظائف الإدارية. أرى أن وكلاء الأقسام العلمية يستحقون مكافأة الوظائف الإدارية، فهم جزء لا يتجزأ من المنظومة الإدارية، وليسوا مجرد تكملة عدد. إن الأعباء الإدارية التي يتحملها وكيل القسم العلمي لا تقل- في أحوال كثيرة- عن نفس الأعباء التي يتحملها رئيس القسم العلمي. إن حرمان وكلاء الأقسام العلمية من مثل هذه المكافآت سيؤدي إلى هروب الكثير من هذه المناصب، وهو ما يعني أن يتحمل رئيس القسم كل شيء. ربما أيضاً يؤدي هذا إلى الممارسة الفردية لشؤون الأقسام العلمية، وخلق الشعور بعدم تكافؤ فرص التقدير المتاحة في المؤسسة التعليمية.
الوقفة الأخيرة: لقد أشرت في مقال سابق لي في جريدة الجزيرة بتاريخ 17- 12-1428، عدد رقم 12872، وبعنوان (أساتذة التعليم العالي... أفواه وأرانب) بأهمية إشراك أستاذة التعليم العالي في كل القرارات التي تخصهم وذلك عن طريق سماع وجهات نظرهم بخصوصها قبل عرضها على الجهات المختصة، واتخاذ قرار فيها. كان من المتوقع أن يطول التعديل سلم رواتب أعضاء التدريس الذي أكل عليه الدهر. وهذا التوقع هو نتيجة طبيعية لتصريحات رسمية عديدة صدرت من مسؤولين في وزارة التعليم العالي ومجلس الشورى بأن سلم كادر رواتب التدريس الجامعي سيعدل للأفضل. للأسف الشديد لم يحدث هذا! لذا من حق عضو التدريس الجامعي الذي منح ثقته لهؤلاء المسؤولين أن يسألهم: أين ذهبت هذه الوعود؟!!
* أستاذ اللسانيات النفسية والتطبيقية المساعد
mohammed@alhuqbani.com