.ضمني في أمسية عذبة من أمسيات شهر رمضان المبارك مع باقة من بنات الوطن لقاء أخوي رطيب كعشب في حالة ندى. كان اللقاء خريطة رمزية لوحدة الوطن ولتعدديته, لحبه ولاحيادية امتداده بنخله ومفازاته بسرابه وبحره بغناه وفقره بآلامه وآماله في أحلام الشعراء وحشى النساء.
كان لقاء بنات جدة ببنات الرياض مقتطفا من وجود بعض من سيدات الرياض بمدينة جدة في طريقهن من وإلى الحرم المكي بمكة المكرمة للعمرة أو لصيام بضعة أيام في الرحاب الطاهرة.
كان مكان اللقاء بالأندلسية الواقع بين حي الخالدية والروضة على شارع.. (نسيت اسم الشارع عمدا لئلا تحتسب الجريدة ذكر عنوان الديوان بمثابة إعلان يدفعونني ثمنه من مكافأة المقال القليلة أصلاً)..
وقد تكفل الإيوان بمناخه الأسري الخالي من كثير من أسباب التلوث البيئي الشائع في أغلب مقاهي المدن العربية في السنوات الأخيرة كالشيشة والدخان والنميمة وبث الفضائيات غثاء الغناء في خلق جو من الجدية والوجد الذي يتعانق فيه حديث العقل مع حديث الوجدان بعدة لغات، إحداها لغة الحوار والتشاور والاختلاف والاتفاق ومشترك التجارب، دون التعارض مع فرادة الذات أو تمايز المغامرات في الذاكرة والمستقبل الشخصي والجمعي معا.
وفي ذلك المناخ الذي تبادلنا فيه أدوار الضيف والمضيف في الانتماء إلى هذه الأرض التي يعرف الكثير من أهلها و ضيوفها أن نصف ترابها هيل وبن ونصفه رائحة قرنفل وملمس زعفران، جرى التعارف سريعا كبرق تتبعه هلة مطر سخي وكأننا كلنا نعرف بعضنا بعضا منذ زمان مع أن البعض كان يلتقي البعض الآخر لأول مرة، إلا أن مشترك خبز شجون المجتمع وملح مشترك الخبرات والاستشراف المستقبلي امتدت كجسر ياسمين تناثرت على مدته مقاعد الجلسة.
ولأسمح للقارئ كصديق, بعيدا عن حس التلصص, بالاطلاع على عينة مما دار في الجلسة أو وربما لأسجل (سيسولوجيا) إن شئتم لمحة من لمحات (تجمعات النساء) - الله يستر من أي تأويل سياسي مرتاب لتعبير - (تجمعات النساء) فإنني سأقدم عقد ضيفات اللقاء بنفس الأسلوب الذي جرى فيه تعارفهن وتعريفهن ببعضهن البعض لمن لم يسبق لهن اللقاء من قبل تلك الجلسة، بما يكشف عن ضمير جمعي عاش مع الأسف ردحا من الوقت مستترا أو مغيبا يطوي ما في أخوية العلاقة بين النساء والنساء من قواسم العمل والأمل، إضافة إلى قواسم الصبر والإرادة والعذابات والعذوبات وأوجاع الحمل وبشائر الولادات بأنواعها المادية والمعنوية الوطنية والشخصية أو ما يسمى في أدبيات الدراسات الاجتماعية باللغة الإنجليزية ب(Sister -hood).
لقد دار الحديث حول عدة محاور وتفرع في عدة اتجاهات وعبر عن تعدد في وجهات النظر ما بين اختلاف وائتلاف من شؤون وشجون الجامعات الإدارية والأكاديمية، باعتبار أن معظم الحاضرات من المنتميات إلى العمل في كادر التعليم والبحث الجامعي، إلى ما تتعرض له النساء من تضييق عند أداء العبادات في الحرم المكي, ومن طرح سؤال لماذا لا يجري تبادل أستاذات وأساتذة وطالبات وطلاب بين مؤسسات التعليم العالي داخليا, ولماذا لا تبادر الجامعات إلى عقد لقاءات دورية بين الكوادر التعليمية في جامعاتنا لمناطق المملكة المختلفة, إلى مسألة التعرف على تجارب البعض منا في بناء شبكة تواصل من جمعيات المجتمع المدني في الفضاء الإلكتروني على الأقل لتبادل الأعمال والخبرات ومن ذلك إلى طرح السؤال عن المنجز العملي وليس الإعلامي أو التنظيري في موقع المرأة من أطروحة الإصلاح الاجتماعي ليس في المدن وحسب بل بما يشمل النساء في كل أرجاء البلاد من النقاط النائية في القرى والهجر إلى هوامش أحياء الفقراء.
سيرة غير ذاتية لبنات جدة والرياض
بسم الله من اليمين دارت كأس التآخي في عدد من المشتركات العملية والعلمية والاجتماعية:
- د. خيرية كاظم، أم لشباب من حفظة القرآن الكريم وأستاذ بقسم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. أسهمت في تأسيس قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود بالرياض عندما بدأت مشوارها الأكاديمي كمعيدة، حين كانت تعمل على أطروحتها العلمية في بحث مقارن عن الوضع الاجتماعي للسجينات بسجون النساء في كل من جدة والرياض. سيدة ذات طبيعة هامسة إلا أنها تقبض على مبادئها النبيلة ببلاغة لا يعرفها أصحاب التشدق بالشعارات. كلما التقيتها عبر عقدين من الصداقة الحقة أشعر كأنني التقي وجها لوجه مع نبع زمزم.
- أ. موضي العمير، كانت أيضاً من مؤسسات قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود مع ثلة من المعيدات السعوديات وعدد من الأستاذات العربيات والأجنبيات، حين كانت تعمل على أطروحتها النادرة في موضوعها في بحث الواقع الاجتماعي للعاملين السعوديين في شركة النفط أرامكو بالمنطقة الشرقية قبل أن تنقل للعمل بقسم علم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. تنفث موضي سحر علمها بين الطالبات بهدوء ودعة وكأنها تمارس أمومتها مرتين في الجامعة والبيت بأوسع ما تمتد إليه يديها من آفاق.
- د. الجازي الشبيكي، (ضيفة شرف اللقاء) وهذا التعبير تعبير مجازي ليس إلا, إذ إن اللقاء كان شكلا من أشكال الحفريات في تراث مفهوم المساواة بين النساء على الأقل. د. الجازي تخصص خدمة اجتماعية بقسم الدراسات الاجتماعية. تتولى عن استحقاق عملا قياديا كعميدة لأقسام العلوم الإنسانية بمركز الدراسات الجامعية للبنات بجامعة الملك سعود. وقد أتمت أطروحتها للدكتوراه في عمل بحثي للتوصل إلى تحديد معياري إحصائي لخط الفقر بالمملكة العربية السعودية. تؤمن السيدة التي لا يشبهها إلا وضوح الشمس وشفافية الشهد بذلك المبدأ البسيط الذي لا يحمله إلا أصحاب رسالات الحق والعدل في الحياة وهو الإخلاص في القول والعمل والانحياز للجمال والنضال.
- د. سعاد بن عفيف، أستاذة الخدمة الاجتماعية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، صمتها كلام مؤثر وفعال. منذ أن كانت طالبة صغيرة ببيروت حين انتخبت ممثلة للنشاط الاجتماعي لرابطة الطلبة السعوديين وهي مهجوسة بالشأن الاجتماعي تبذل له من وقتها وكأنها نحلة منذورة لحياكة الرحيق ولتوصيل العسل لكل روح عطشى.
- د. ابتسام استنبولي، أستاذة الخدمة الاجتماعية بجامعة أم القرى، غادرت قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود إلا أن بصماتها على هواء الرياض على كريب وسعف وعذوق النخل وعلى قامات جيل من طالباتها بالحرم الجامعي بعليشة بقيت تشير إلى ما تتحلى به ابتسام من أخلاق العلماء التواضع والعطاء وكأنها تغرف من نهر لا ينضب.
- د. سامية العامودي، هذه المرأة الشجاعة المجبولة من شراسة الصبار ورقة الحرير استشارية وأستاذة في تخصص النساء والولادة، أعادت ببطولتها الذاتية وبما خلقته من التفاف محلي وعربي وعالمي حول قضيتها الإنسانية في مقاومة مرض السرطان الاعتبار للأمل ضد اليأس وللإيجابية ضد الانسحاب وللحب ضد الوحشة وللانتماء ضد العزلة. وهي تلتقي في هذا الموقف الجريء المستقوي على الضعف البشري بالإيمان الرباني وباكتشاف طاقة الإنسان الكامنة لمواجهة التحدي عند الامتحان مع د. الجازي الشبيكي. فكلتاهما استطاعتا بفضل الله أن تعطيا مثالا حيا للنساء والرجال معا على روح تمردت على الاستسلام للمرض وتحالفت مع الشفاء - بإذن الله -.
- د. نورة المساعد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز بجدة كأن نخلة من نخيل الصحراء ظلها أو توأمها. كأن شلالا يهدر في كلامها القليل واعتكافها الطويل على أبحاثها. عندما التحقت بجامعة مانشستر وجدتها سبقتني في تقديم أوراق سفيرة سعودية إلى الشمال الغربي البريطاني.
- د. أميرة كشغري، تخصص أدب إنجليزي وتلك الكاتبة المشتعلة بفكر نقدي وقلم نزيه بجريدة الوطن لا أدري منذ متى عرفتها، ولكني في ذلك المقام ساررتها أمام جميع الحاضرات بأني التقيتها ذات طفولة في بساتين الطائف وكنت ألعب معها تحت مطر العصاري على أنها طفلة الجوري والبرد.
- د. شريفة الصبياني، أستاذة واستشارية النساء والولادة كأنها في حيائها وجرأتها في براءتها وعمقها صبية من أولئك الصبايا القادمات للتو من أرض صبيا مضمخة بالفل والريحان وحمرة الحناء ولفتات بنات الجنوب، في الوقت الذي تحمل فيه بين جوانحها كما تحدثت عنها د. سامية العامودي روح معرفية سامقة وثقة لا تحد بقدرات النساء على تحمل المسؤولية.
- أ. نور العمودي، تخصص دراسات اجتماعية أيضاً قابلتها قبل هذا اللقاء في رحلة مصر في اللقاء الثقافي بالمعهد السويدي، ولفت نظري أنها لم تكن ترافق زوجها الدكتور أبو بكر باقدر في تلك الرحلة، بل كانت رفيقة له ولوفد تلك الرحلة من مختلف أطيافنا الثقافية. وكأنها بتلك الروح المتزنة تعيش عمليا أطروحة كتابها الذي تعده بالتعاون مع جامعة أوهايو بأمريكا الشمالية عن حياة السيدات المسنات بمكة المكرمة ممن أتين من خلفيات اجتماعية مختلفة ومن جذور جغرافية متعددة/ حضرموت والهند وبلاد جاوه وتركيا وسواها، واستطعن أن يخلقن أسطورة التحام اجتماعي ووطني في البيئة الاجتماعية الجديدة، ويشكلن في المجتمع السعودي إضافة حضارية وثقافية.
- أ. أستاذة مها عقيل، الكاتبة بجريدة العرب نيوز التي تعمل برابطة العالم الإسلامي انضمت إلى اللقاء بعفوية ودون سابق انتظار، كأن صدفة كريمة جاءت بها إلى الأندلسية وقت الجلسة. فبدا من تدفقها في الحديث عن مشروع رابطة العالم الإسلامي لوضع وثيقة حقوقية للمرأة مستمدة من الفهم المستنير للتشريع الإسلامي توازي وثيقة الأمم المتحدة لمناهضة التمييز ضد المرأة كأننا كنا على موعد.
- أما الشاعرة بديعة كشغري، وإن جاء انضمامها إلى اللقاء متأخرا بعض الشيء، فقد أضفت بحسها الإبداعي بمجرد دخولها إلى المكان جوا شعريا على الجلسة وكأن غيمة ماطرة انهمرت بسلسبيل ماء.
غابت عن الجلسة د. فتحية قرشي ود. نائلة عطار ود. فاتنة شاكر، ولا أعلم إن خانني الجوال ولم تصلها الدعوة، إلا أنني شعرت أن أطيافها والزميلتين العزيزتين اللتين اعتذرتا لظروف صعبة كانت ترف بنا.
أما أنا فبما أنني من بنات جدة والرياض فقد كنت أشارك في اللقاء بدهشة هذه الصداقات المعمرة التي يعود بعضها لمطلع حياتي، وكلها تنبض كأننا تربينا معا على العلاقة بين صخرة وموجة.
والحقيقة أنني استوحيت كتابة هذه السيرة غير الذاتية لبنات جدة والرياض ممن ضمهن ذلك اللقاء الرمضاني العابر لمنطق المناطقية، من فكرة طرحتها د. سامية العامودي وهي أن هناك قصورا بين النساء بعضهن البعض وفي المجتمع المحلي وفي المجتمع الدولي بشكل خاص عن التعريف بسيرة النساء السعوديات، تلك السيرة التي تحمل سفرا لا يزال خفيا في تاريخ التآخي بين النساء وفي فعالية التساند بين النساء والنساء وبين المجتمع في مسيرة العمل التراكمي اليومي، للخروج على القوالب التقليدية سواء في النظر لإمكانات ومنجزات النساء أو في النظر لعلاقة المرأة بالمرأة. فبينما لا تطغى على السطح ولا تركز وسائل الإعلام إلا على إظهار (إرث دسائس الجواري في العلاقة بين النساء (فإن هناك كنزاً تاريخياً لا يزال بكرا من التساند بين النساء مما لم يكتب بعد ومما يحتاج إلى توثيق ولتطوير العلاقة بين النساء والنساء وبين المجتمع رجالا ونساء.
وأختتم بالاستسماح من الروائية والطبيبة الشابة رجاء الصانع على استعارتي بتصرف لعنوان روايتها الشهيرة المستعارة هي أيضاً بتصرف مبدع من الفنان محمد عبدو مع التحية.
Fowziyah@maktoob.Com