إنَّ الإنسان خُلق في كبد، ولا تخلو حياته من نكد، والحياة لا تستقيم ولا تُعرف قيمتها إلا بمنغصاتها، والعسر بعده يسر، والقبض لا بد له من بسط، وقد يكون في تعاظم الشدة وتفاقمها إيذان بانفراجها، وظلمة الليل تزول مع إشراقة النهار . |
والإنسان المؤمن إذا ما لجأ إلى الله متعلقاً بعروته الوثقى، مخلصاً له العمل، وعاقداً عليه الأمل، عندئذ يمنحه الرضا ويلهمه الصبر ويعينه على تجاوز محنته محولاً إياها إلى منحة، وقد قال الشاعر: |
إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً |
فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج |
وثمة الكثير من المشكلات التي تصادف الإنسان في حياته، والتي لا مفر أمامه من إيجاد الحلول لها والتغلب عليها؛ الأمر الذي يتطلب منه الأخذ بالأسباب التي تمكنه من تذليل الصعوبات وتجعله يسيطر على المعوقات على النحو الذي يزيل كل ما يعترض طريقه من عراقيل وموانع، وبالتالي يتجاوز أزمته ويحل مشكلته. |
وقد يكون الصبر والزمن كفيلين بحل المشكلة وتجاوز الأزمة؛ حيث يوجد فيهما ما يؤدي إلى حلحلة الأمور وتغير الظروف والأحوال إلى الأفضل، والإنسان إذا ما تحلى بالصبر وبذل الجهد وترك الزمن يفعل فعله تجاه ما يمر به من أزمة، حقيق به أن يقطف ثمار صبره ويستفيد من جهده ووقته للفوز ببغيته وتحقيق هدفه؛ إذ إن مَن جدّ في أمره وتسلح بصبره استطاع توطين نفسه ورياضتها على قبول واقعه والتربص بالفرص ليقتنصها، متخذاً من الزمن مطية يمتطيها ومن الصبر وسيلة يتوسلها لتكرار المحاولة ومعاودة قرع الأبواب حتى تنفرج الكروب ويحصل المطلوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب). وقال أنو شروان: جميع مكاره الدنيا تنقسم إلى قسمين: ضرب فيه حيلة فالاضطراب دواؤه، وضرب لا حيلة فيه فالاصطبار شفاؤه، وقال علي بن أبي طالب شعراً: |
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير |
وكل أمر له وقت وتدبير |
وللمهيمن في حالاتنا نظر |
وفوق تقديرنا لله تقدير |
وعلاوة على أن تجاوز أية أزمة تلمُّ بالإنسان تستدعي منه الأخذ بالأسباب والتحلي بالصبر والاستفادة من الوقت، فإن هناك أمراً يواكبها وينعكس مردوده عليها، وهذا الأمر هو الأمل الذي يعد من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ويأتي على عدة صور من حيث الأثر والتأثير، ويعتبر الأمل في هذه الحالة بمثابة مثير يحرك الحماس ويستثيره من جهة، وحافز يبعث على الإصرار والثبات في سبيل الوصول إلى الهدف من جهة ثانية. |
والإنسان لا ينفك من أمل يدفعه إلى هدفه، فإن فاته الأمل لجأ إلى المنى، والأمل يقع ويتحقق بسبب وله ضوابطه ودوافعه، أما المنى فبابها مفتوح لمن تكلّف الدخول فيه، والآمال لا تنتهي، والأماني لا تدرك بالتواني، وقد قال أحد الحكماء: الأمل رفيق مؤنس إن لم يبلغك هدفك فقد ألهاك. وكما قال الشاعر: |
إن للآمال في أنفسنا |
لذة تنعش منها ما ذبل |
لذة يحلو بها الصبر على |
غمرات العيش والخطب الجلل |
ومن رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن الإنسان قد يفجع بفواجع موجعة وينزل به خطوب مؤلمة، ثم ينساها نتيجة لمرور الأيام وتقادم الزمن عليها، واعتبار النسيان منحة من الله منحها هذا الإنسان ليخفف عليه مصابه، ويزيد ثوابه، وهذا الأمر لا ينطبق على المشكلات والأزمات التي تحصل للإنسان، ولا مندوحة أمامه من مواجهتها والالتفاف عليها، رغم أنه أحياناً قد يحاول أن يتجاهلها أو ينشغل عنها، وما يعنيه ذلك من الابتعاد عن الواقع مؤقتاً بفضل اللجوء إلى شكل من أشكال النسيان الذي سرعان ما يتخذ منه استراحة محارب ليستعيد المبادرة ويحصل له النجاح في مسعاه، منطبقاً عليه قول الشاعر: |
خاض الحمام بهن حتى ما درى |
أمن احتقار ذاك أم نسيان |
والابتعاد عن الواقع في سبيل مواجهته والاستعداد له يعتبر صورة مقبولة من صور الالتفاف عليه، وقد يحصل ذلك في مثل هذه الحالات التي لا مجال لنسيانها ولا مناص من النجاح فيها، أما الهروب من الواقع فأمر غير مقبول، فكيف إذا كان لسان حال البعض ممن يمتهن الكتابة ويحمل القلم من أبناء الأمة العربية يجسد هذه الحقيقة ويدعو إليها، خاصة فيما يتعلق بقضايا هذه الأمة المصيرية متخذاً من ضعف الأمة وما بين شعوبها من فُرقة ويطفو على السطح من فتن ذرائع لإيراد وجهة نظره، وحجته في ذلك أن مثل هذا الطرح إثارة لواقع الأمة المؤلم والكتابة فيه تعتبر من مكرور القول وفيها نكاية لجراحها وجرها إلى وهدة اليأس والقنوط والإحباط. |
والواقع أنه نظراً إلى ما تعانيه الأمة من عوامل نفسية ومعنوية، أصبح مثل هذا الطرح يصادف شيئاً من القبول وله ما يبرره، إلا أن الأحداث تفرض نفسها، والكلمة لها وقعها، وهي الوسيلة المتوافرة للتأثير في الآخرين، واستمالتهم إلى جانب الحق، والاكتفاء بجهد المقل وانعقاد الإرادة على تحقيق الأهداف يعدُّ من قبيل الرضا من الوفاء باللفاء، مع الأخذ في الحسبان أن العالم أصبح قرية واحدة والشبكة العنكبوتية وتقنية المعلومات وطفرة الاتصالات ووسائل الإعلام كلها وسائط جعلت المعلومة في متناول الجميع، ولم يعد ثمة معلومات يمكن التعتيم عليها، وهو أمر يدعو إلى توضيح الحقائق ومقارعة الحجة بالحجة بدلاً من المكابرة وتجاوز حالات الجواز إلى الإمعان في النشاز والهروب من الواقع، وكما قال الشاعر: |
لستر الشمس أيسر من كلام |
تستره وقد ملأ الفضاء |
وإذا كان ثمة من يقول ما الجديد في الأمر طالما أن القضايا مزمنة والبؤر ساخنة والجراح مثخنة، فالرد على هؤلاء هو أن الأمة أصبحت مهددة أكثر من ذي قبل؛ حيث بات أمنها الفكري مهدداً وأمنها العسكري مقعداً، ومهما كان تاريخ الأمة مشحوناً بالآلام فإنها لم يمر عليها مرحلة عبر مراحل تاريخها الطويل أصعب مما هي فيه الآن، والتهديد الموجَّه للأمة من خطوط داخلية تداعى له تهديدات من خطوط خارجية مشكِّلة طرفَي كماشة بالنسبة إلى الوطن العربي. |
والنسيان في مفهومه الإيجابي وصورته المطلوبة قد يستعان به في التغلب كلياً أو مرحلياً على حالات خاصة ومواقف فردية، أما تهديد أوطان الأمة والتكالب عليها من كل جانب فيحتاج ذلك إلى إخلاص النية والأخذ بالأسباب؛ حيث يحاول كل مواطن من جهته إصلاح واقعه، ومن ثم الإسهام بقدر الاستطاعة في إصلاح مجتمعه، مطيعاً لولاة أمره، ومؤتمراً بأوامرهم بما يعلي كلمة الله ويرفع من راية الدين ويخدم رسالة الأمة، مساعداً إياها على تجاوز محنتها والنهوض من كبوتها، توطئة لتكوين الذات وتأهيلها للدفاع عن قضايا هذه الأمة واستعادة مجدها، بعيداً عن خداع النفس وظلمها وما يعنيه هذا الأمر من إغراقها في مستنقع التخلُّف والهروب من الواقع مع إحالة الأمور إلى المقادير. |
وبادئ ذي بدء، فإن أول مطلب هو العودة إلى الله وجهاد النفس وتطويعها على كل ما فيه خيرها، ومعرفة الخطأ هو الخطوة الأولى لتصحيحه، ومَن عرف نفسه استطاع أن يسوسها، وهذه المعرفة هي التي تقود صاحبها إلى معرفة معاناة الأمة، وتحسس مشكلاتها وهمومها والتعاون مع الآخرين للخروج بها من دوامة التبعية والهوان إلى حياة العزة والكرامة، ولن يتأتى ذلك إلا باتباع جادة الصواب وطاعة رب الأرباب، والالتفاف حول القيادة المسؤولة لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، سواء أكان ذلك على المستوى القطري أو القومي مع نبذ المشاحنات والقضاء على الثارات، وعدم تبييت المؤامرات التي ينميها الحسد وتدفعها الأنانية المفرطة، ومجاهدة النفس مقدَّمة على مواجهة الأعداء، والقلم يخدم السيف، وصراع العقول قبل صراع العضلات، والفتن مردها إلى مكايد الأعداء، ويغذيها الظلم والحسد، وقد قيل: من أصلح فاسده أساء حاسده. |
وعود على بدء، فإن مَن سار على الدرب وصل، ومن استعذب المتاعب تغلب عليها؛ الأمر الذي يستدعي أن يواكب إصلاح الداخل والمواجهة الفكرية مع الخارج جهود أعظم شأناً لإعداد القوة العسكرية الكفيلة بإنجاز المهام المطلوبة منها، والسعي لجعل هذه القوة في أحسن حالاتها وكامل جاهزيتها، والوصول بها إلى أعلى مستويات الكفاءة القتالية حتى تتوافر لها خاصية الردع ضد أي تهديد معادٍ. |
ورغم أن التحديات ماثلة وإرهاصات المخاطر حاصلة، إلا أن تقويمها من حيث التضخيم والتحجيم يعتمد على مصدر التقويم، فالعسكري المحترف له تقديره حيال الموقف، وطبيعة المهنة وحيثياتها تلعب دوراً أساسياً في التحليل واستخلاص الافتراضات والحقائق والمحصلة النهائية لها، على ضوء المواقف الخاصة والفرضيات العامة ومقارنة القوة طبقاً لعوامل ومقاييس المقارنة من جهة واعتبار الأمن القطري جزءاً لا يتجزأ من أمن الجوار من جهة ثانية والأمن القومي من جهة ثالثة، في حين ينظر السياسي إلى هذه التحديات والمخاطر من زاوية السياسة والدبلوماسية المحركة لها، أما الإنسان العادي فانطباعه يعتمد على سعة اطلاعه ومستواه المعيشي في الداخل وما يغمره من سعادة أو يشعر به من تعاسة في القطر الذي ينتمي إليه ومدى انغلاقه في داخل محيطه القطري أو انفتاحه وتأثره بالبُعد القومي والإسلامي. |
والزعامة السياسية في هذا البلد تدرك أكثر من غيرها تحديات المرحلة، وخطورة التهديد الذي يتربص بالأمة، وما الاتفاق الأخير بين دول الخليج وتركيا إلا خطوة على الطريق الصحيح وفي الاتجاه الصحيح لخلق توازن جديد يدرأ عن المنطقة الأخطار المحدقة وآثارها القريبة وانعكاساتها البعيدة، ويعود عليها بالأمن، وهذه الخطوة يتعين أن تفعَّل وأن يتبعها خطوات مماثلة داخل الإطار الإسلامي، تهدف إلى إحكام الطوق على مصادر التهديد والتحسُّب لكل ما هو مستقبلي على ضوء هذه المرحلة الدقيقة من عمر الأمة وما يكتنفها من تحولات حاسمة وتغيرات منتظرة لها أبعادها وآثارها الإقليمية والدولية. |
كيف لا يكون هذا الإدراك والتحسب لما هو قادم، والمملكة تحتضن الأماكن المقدسة وتحتوي أرضها على مخزون نفطي يتحكم في مستقبل العالم، ولها حجمها الاقتصادي ووزنها السياسي والثقافي وإرثها الحضاري والتاريخي، ناهيك عن مكانتها الإقليمية والعالمية وما لها من تأثير ريادي وموقع قيادي يحتمان عليها أن تؤثر في أحداث المنطقة وتتأثر بها؛ حيث إن مَن تطلع إلى إثبات الوجود والتأثير في المحيط الدولي، فمن باب أولى أن يكرس حضوره في محيطه الإقليمي ودائرته الأممية عربياً وإسلامياً. |
ومن هذا المنطلق فإن المملكة حريصة على أن يكون حضورها فاعلاً ومتواصلاً بالنسبة إلى القضايا العربية والإسلامية؛ حيث يتناغم التأثير السياسي مع الدعم المادي بالصيغة التي تضع الأمور في نصابها وتحسب لها حسابها، وفي الوقت نفسه عدم إتاحة الفرصة للآخرين بالتحكم في الأمور وخلط الأوراق وقلب الحقائق فيما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم على حساب غيرهم. |
والحق لا غنى له عن عقيدة دينية صحيحة تصونه، وأمة تذود عنه، ولن يتأتى للأمة هذا الأمر إلا بإصلاح حالها واعتبارها قدوة في أقوالها وأفعالها، والسبيل إلى ذلك يكون بالروية والفكر وامتلاك ناصية العلم والمعرفة وما يدعم هذه العوامل من قوة عسكرية فاعلة وقوة سياسية واقتصادية. |
|