علينا بدايةً أن نعلم أن التحرش الجنسي بين الجنسين يعتبر ظاهرة عالمية حيث توجد في جميع دول العالم؛ الأمر الذي جعل تلك الدول تقوم على دراسة تلك الظاهرة بل وعمل إحصاءات لها ودراسات للتخلص منها.
كما يجب أن نعلم أن ظاهرة التحرش الجنسي لا تقف عند حد تحرش الرجال بالنساء فقط بل أيضاً تحرش النساء بالرجال؛ فقد ذكرت عدة دراسات قيام العديد من النساء العاملات بالتحرش بموظفين ذكور.
إن انتشار تلك الظاهرة يعتمد أساساً على اختلاط الجنسين بالعمل وطول فترة الدوام وعوامل فردية كثيرة.
ونحمد الله أنها لا تعتبر ظاهرة بالمملكة العربية السعودية حيث تكاد تكون أماكن العمل التي يوجد فيها اختلاط قليلة جداً إن لم تكن معدومة ولا تصل إلى حدود صبغها بالظاهرة وإن كانت موجودة في حدود ضيقة جداً.
والتحرش الجنسي عادةً يكون إما في داخل أماكن العمل إن كان هناك اختلاط سواءً عند المداخل إن كان هناك أقسام خاصة منعزلة بالإناث أو داخل المكاتب إن كان العمل يتطلب وجود الجنسين في مكان واحد، والنوع الآخر من التحرش الجنسي هو عند مقدمي الخدمات خارج أسوار العمل كمندوبي التسويق والمبيعات من الجنسين. وإن كنت أعتقد وغيري كثيرون أن الرجال الذين يتحرشون بالنساء يفوق عددهم المتحرشات من الإناث بالرجال حتى وإن تم رصد بعض الحالات على نطاق ضيق.
وقد يكون النوع الأول في دول العالم أكثر انتشاراً من النوع الثاني لاختلاط الجنسين بأماكن العمل، أما في المملكة فأرجح - وإن كنت لا أملك دراسة بين يدي أو إحصائية - أرجح أن يكون النوع الثاني هو أكثر رواجاً من النوع الأول. حيث تواجه مندوبة المبيعات في الغالب عدداً من المضايقات من الذكور قد يصل بعضها إلى درجة التحرش الجنسي.
وللتحرش الجنسي أسباب عالمية كما ذكرت سابقاً، وهناك أسباب تخص كل بلد بمفرده بحسب ثقافته وطبيعته من حيث المحافظة الاجتماعية والقيم الدينية والأخلاقية وغيرها، ولعلي هنا أشير إلى أن مجتمعنا وخصوصاً المجتمع الذكوري لم يألف حقيقةً الاحتكاك بالنساء في أماكن العمل وكذلك الأمر بالنسبة للإناث إلا أن ما يفرق بين النوعين أن كثيراً من السيدات لدينا يرفضن العمل إن كان هناك نوع من الاختلاط أو الاحتكاك بجميع صوره مع الرجال؛ الأمر الذي تقل معه نسبة التخالط بين الجنسين، سواءً داخل أو خارج العمل. أقول إن المجتمع الذكوري لدينا لم يألف حقيقةً العمل مع الإناث في أماكن واحدة حتى أولئك الذين يعملون في مجال الطب يقضون معظم وقت الدراسة منعزلين عن الإناث حتى السنة ربما الأخيرة التي يتم تدريب الطلبة فيها على حالات حقيقية وواقعية، وهنا يحدث الاختلاط للمرة الأولى بين الجنسين.
إضافة إلى ما ذكرته من أسباب، قد يكون عامل التفوق الوظيفي من أهم عوامل الضغط الذي يمارس على النوعين ويؤدي إلى محاولات التحرش الجنسي كأن يكون مدير الإدارة من الذكور وهو الذي يرأس فريقاً من الجنسين؛ الأمر الذي يزيد من جرأته على التحرش بإحدى العاملات لديه.
لابد إن أردنا حقيقةً القضاء على تلك المواقف التي قد تصل - إن اتسعت دائرة الاختلاط - إلى مستوى الظاهرة، لابد أن نشير إلى ضرورة توعية وتثقيف الجنسين من حيث ضرورة المحافظة على القيم الأخلاقية والدينية وتكريس مفهوم أن العمل المختلط لا يجيز أو لا يكون مبرراً للتحرش الجنسي أو أي نوع من التحرش، والكيفية التي يتم بموجبها تقوية الوازع المهني الأخلاقي لدى الجنسين، وتحفيز السيدات اللاتي يتعرضن للتحرش بجميع أشكاله، وخصوصاً التحرش الجنسي، على الإبلاغ عن ما تعرضن له وعدم السكوت خوفاً من الفضيحة أو من انتقاص سمعتهن، حيث غالباً ما يتم استغلال هذا الخوف في زيادة حالات التحرش من قبل الذكور، وقد يكون ذلك من الموضوعات التي ربما ينبغي المسارعة إلى علاجها قبل استفحالها عبر وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان والوزارات المعنية عبر إقامة ندوات وورش عمل واستخدام كافة الوسائل الإعلامية التي تزرع لدى الشباب من النوعين مفهوم العمل المختلط دون إيذاء أو تحرش بكافة أشكاله وصوره. ونحن نعلم ضرورة المبادرة لعلاج تلك المواقف قبل تحولها إلى ظاهرة عند علمنا بأن أكثر من 60% من الشعب السعودي هم دون ربما الثامنة عشرة ومقدمون على العمل، وأن دور الفتاة العملي بدأ بالازدياد بشكل ملحوظ، سواءً بالمستشفيات أو البنوك أو حتى القطاع الخاص بجميع أنشطته وأنواعه والذي أخذ يوظف الفتيات في مجالات التسويق والمبيعات على نحو واسع وغير مسبوق؛ الأمر الذي يزيد ضرورة السرعة في اتخاذ الخطوات الوقائية الكفيلة بعدم انتشار تلك المواقف وتحولها إلى ظاهرة.
وأذكر أنه قد أبلغتني إحدى مندوبات المبيعات من خلال الهاتف أثناء إصرارها على سماعي لمزايا الخدمة التي تقدمها، أبلغتني حينما سألتها عن الكيفية التي حصلت من خلالها على رقم هاتفي بأنها قد احتفظت بقائمة من الأرقام أثناء عملها في إحدى الشركات السابقة وفي ذات الوظيفة وأنها في الغالب لا تستطيع الاستمرار في شركة واحدة لكثرة ما تتعرض له من تحرشات، سواءً من العاملين بالشركة أو ممن تعرض عليهم شراء السلعة أو الخدمة، والذي يصل في أحايين كثيرة إلى طلب رقم هاتفها الشخصي أو من خلال طلب مقابلتها بشكل مباشر.
إن أردنا فعلاً أن نقي فتياتنا مستقبلاً، وخصوصاً في ظل انفتاح أبواب العمل لهن، فإن علينا أن نستشعر المشكلة سلفاً وأن نحاول رصد جوانبها ودراستها ووضع الحلول المناسبة والكفيلة بالقضاء عليها قبل استفحالها؛ فقد جُبلنا على معالجة الأخطاء بعد حدوثها.
dr.aobaid@gmail.com