الأسواق المالية مختبرات اقتصادية تتفاعل فيها روح الاقتصاد المالي مع الاقتصاد الحقيقي؛ ما يجعل أي هزة مالية تقرع ناقوس الخطر، وما يواجه الاقتصاد العالمي اليوم لا يمكن تسكينه بإطلاق عبارات اعتادت الأسماع على تداولها من صنف أزمة أو مصاعب أو ضغوط؛ فالاقتصاد الرأسمالي اليوم يواجه تهديدا هيكيليا يضرب مؤسساته المالية وأدواته، هذا الواقع جعل العالم الرأسمالي اليوم بكل دوله ومؤسساته يطرح مقترحات وبرامج وأفكارا ومراجعات تبدو خارج سياقه وفرضياته التي اعتاد أن يقدم نفسه إلى العالم بها؛ الأمر الذي جعل بعض المتحمسين يبالغ في تصوير ما يحدث للرأسمالية اليوم بما حدث للشيوعيه من انهيار، غير أن العارفين بأدبيات الرأسمالية يدركون ان الطيف الفكري الرأسمالي يملك تعددا لونيا يجعل الرأسمالية قادرة على استيعاب الصدمات وتبديل مراكز القوى فيها بما يضمن بقاءها واستعادة قوتها.
انعدام روح المسؤولية هو ما جر الاقتصاد العالمي إلى غياهب الغموض وإشاعة عدم الثقة وسلوك المؤسسات المالية التي اندفعت في التوسع الإقراضي دون أدنى اعتبار لمعايير المخاطرة جعل تلك الأسماء الكبيرة التي تمثل حصن الاقتصاد المنيع تنهار واحدا تلو الآخر وتختفي في بعضها البعض في قرارات اندماج هربا من الموت المحقق. مرض نقص المناعة الاقتصادي (الثقة) يصعب على العالم مواجهته بأمصال ومضادات وقتية وخطط تفتقر إلى التفعيل الكامل؛ ولذا فإن محاولات الإنقاذ وضخ الأموال سيكون الفشل حليفها ما لم تمتد إلى جذور الثقة وإعادة صياغة الأنظمة التي تعيد الهيبة لهذه المؤسسات وثقة المجتمع بها.
في خضم الظروف الاقتصادية العالمية المريرة يظل الاقتصاد السعودي محافظا على صلابته ومستمرا في سعيه نحو تعزيز البنية الاقتصادية التي ستنتج التنوع الاقتصادي الذي يكسر نمطية الاقتصاد وحيد السلعة (النفط) في خطط استراتيجية تستهدف المورد البشري كمحور ارتكاز للمستقبل الاقتصادي، لكننا بالمقابل لا يمكن أن نتجاهل مرض نقص المناعة الاقتصادي ونغفل عن أدوات محاصرته مبكرا قبل أن يستفحل أمره ويخرج عن السيطرة، وما زفته إلينا بالأمس شاشة تداول من بيانات تؤكد سلامة بنوكنا المحلية من أزمة الرهون العقارية العالمية وعدم تأثرها أفسد فرحته التأخر السلحفاتي في إصدار هذه البيانات في تجاهل للمادة 25 من قواعد التسجيل والإدراج في السوق المالية المحلية والذي يتم تداول جميع أسهم هذه البنوك داخلها. العارفون بسياسة البنوك المحلية السعودية المتحفظة في الإقراض والإدارة متأكدون من سلامة النظام المصرفي السعودي دون هذه البيانات لكن متطلبات المرحلة الحالية التي يموج فيها الاقتصاد العالمي تفرض على هذه البنوك وجميع مؤسساتنا المالية أن لا تتمدد هذه السياسة المتحفظة إلى ألسنة مسؤوليها فتصمت عن إيضاح الحقيقة في وقتها لتمنح المجتمع الطمأنينة والثقة في مؤسساته.