أثناء إحدى المسامرات الرمضانية التي جمعتني بالأخ الأستاذ سليمان الجاسر الحربش - الأمين العام لصندوق الأوبك - قادني الحديث إلى رثائه لزميله وصديق الجميع المرحوم د. صالح العبدالله المالك - الأمين العام لمجلس الشورى - وكم كان ذلك الرثاء مؤثراً ينمّ عن أصالة وعاطفة لا تعرف إلا الحب ولا ترى الأحباب إلا بمنظار أبيض. وكعادته تحدث أبو زهير وأفاض عن الفقيد المرحوم، واستعرض ما كتب عنه، وتوقف طويلاً عند ما كتب الأستاذ ناصر الصالح العمري في جريدة (الجزيرة) الغراء تحت عنوان (بديع الزمان في جوار الرحمن)، وتفضل أبو زهير بتزويدي بصورة عن تلك المقالة قرأتها مرات ومرات لاختلافها الجذري عن المألوف في أدبيات الرثاء، فحركت كوامن كادت أن تموت بفعل السنين، ولكن كرم رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك أتاح لها أن ترى النور على صفحات جريدتنا الغراء، فلعل هذه الأسطر ترقى إلى ما يستحق دقائق من وقت القارئ.
في مدينة الرس الوادعة الطيبة كانت النشأة والطفولة في أوائل السبعينيات الهجرية من القرن المنصرم، وكنت أحسب نفسي بحكم الهواية والاهتمام ملماً بكل سكان المدينة آنذاك لقوة الترابط بين الأسر ولصغر المساحة وتقارب المسافات، وحاولت جاهداً أن أستعيد ما تختزنه الذاكرة عن الأستاذ ناصر الصالح العمري فلم تسعفني كثيراً؛ لأنه من جيل سبقني سناً وعلماً ومكانة، فحاولت رسم صورة قريبة للأستاذ ناصر من خلال معرفتي المباشرة والقريبة بوالده يرحمه الله وأخيه الأستاذ عبدالله.. الأول بحكم صداقته لوالدي يرحمهما الله وتجاورهما لسنوات في الجهة الجنوبية الشرقية من سوق مدينة الرس الرئيسي آنذاك والمعروف بالسوق أو المجلس.. والآخر لتقارب السن والزمالة في العمل الحكومي.. وبالرغم من صغر سني إلا أن شخصية العم صالح العمري لا تنسى.. فقد كان دكانه مجاوراً لدكان والدي يرحمهما الله، وكانا يقضيان الساعات الطوال في مناقشات جادة عن أوضاع المدينة وقصص من سبقهم، ويتوقفان طويلاً عند الشعر الشعبي استذكاراً وتحليلاً وتفسيراً لمفرداته، وقد لا يكتفيان بما يمكنهما منه الوقت فيمتد الحديث في قهوة أحدهما في المنزل وخاصة بعد الظهر.. كان العم صالح جاداً في مظهره متقناً لعمله دقيقاً في ملاحظاته هادئ الطبع خافت الصوت أنيق الهندام لا تفارقه الصدرية التي كانت تضفي على مظهره نوعاً من الوقار في الملابس ولا تفارقه النظارة البيضاء الطبية.. وبحكم تواجدي مع أخي صالح في دكان الوالد كنت ألوذ به مراراً كلما حزبني أمر فأجده نعم الملاذ أقرب ما يكون إلى شخصية الجد في حنانه وحنوه.
كان العم صالح ذواقاً وناقداً للشعر الشعبي، ويعتبر أحد أوثق الرواة لشعر عبدالله بن سبيل، فإليه تنتهي الكلمة كلما اختلف مع الوالد أو أحد الأصدقاء عن صحة بيت أو معناه، وله باع في التحليل الاجتماعي ومعرفة الشخصيات تأتي على شكل دعابة أو تعليق ولكنها تصيب لب الموضوع ولا تفوت على اللماح من أصدقائه.
في مثل هذه البيئة نشأ الأستاذ ناصر الذي كما أسلفت لم تسعفني الذاكرة بالكثير عنه ولم أعرف السبب إلا بعد أن قرأت مرثيته المعبرة في فقيد الجميع د. صالح العبدالله المالك، حيث تبينت أنه كان في الرياض أثناء فترة طفولتي التي لم تستمر طويلاً لالتحاقي بالمدرسة العسكرية بالرس في نهاية عام 1374هـ حتى عام 1377هـ، وبالطبع عندما أعود إلى البيت في أيام الجمع لا أذهب إلى الدكان لضيق الوقت ولأنني أود قضاء أطول وقت ممكن مع الوالدة يرحمها الله، لا أدري لماذا أشغل ذهن القارئ بمثل هذا السرد ولكنني وجدته أساسياً للدخول إلى صلب الموضوع.. فأنا لست ناقداً ولا متذوقاً للشعر والنثر ولكنني محب لكليهما، ووجدت في مرثية الأستاذ ناصر ضالتي.. لقد أعادني الأستاذ ناصر إلى عصور ازدهار اللغة العربية وسلامة اللسان بتناوله الموضوع من زاوية غير تقليدية واستعماله لمفردات لغوية أصيلة في سياق سهل ممتع يصحب القارئ من خلاله في رحلة مع الفقيد تلقي الضوء على مناقبه وأريحيته وعفويته وترسم صورة واضحة لتلك الفترة من تاريخنا.
فكم سعدت أن أرى ابن مدينتي الحالمة الوادعة يحمل الهمّ القومي في وقت كانت معظم البلدان العربية تعاني من الاستعمار، والتواصل مع العالم يكاد يكون مقطوعاً إلا مما تتناقله أفواه الرواة أو المذياع لاحقاً أو البرقية للأمور الرسمية المهمة كالصيام والإفطار ومواعيد الأعياد.
ثم كم تعجبت أن تولد الذائقة الأدبية السمعية في تلك الفترة خاصة أن الاستماع إلى أغاني المذياع يكاد يكون مستحيلاً حتى وإن توافرت الوسيلة؛ فالنواب لها بالمرصاد، وكم أبهجني ذلك الوصف الدقيق لبرنامج الحياة اليومية في تلك الأيام والسكن التكافلي واحترام الكبير والنشاط الأدبي.. ثم هو بسمو أخلاقه ينسب كل فضل ونجابة إلى الفقيد إيثاراً لأنه يستحق ولأنه يود ألا يكون لذاته وجود أثناء الحديث عن الفقيد، وهي شيمة وأريحية لا أستغربها على من نشأ على يد المربي صالح العمري يرحمه الله.
ليت الأستاذ ناصر يلتفت إلى الكتابة عن تلك الفترة من منظور أدبي واجتماعي لأنه شاهد عيان حباه الله بأسلوب شيق وذائقة رفيعة وذاكرة متوقدة وألا ننتظر لرائعة أخرى لا ترى النور إلا بفَقْد عزيز علينا وعليه.