ذكرت في المقالة السابقة أن موافقة مجلس النواب والشيوخ الأمريكي على خطة الإنقاذ لمواجهة الكارثة المالية يعني أن الدولة أصبحت تقود الاقتصاد ولم تعد السوق حرة، مما يسقط المبدأ الرأسمالي الأول وهو الحرية الاقتصادية، ومن ثم شكل ضربة للفكر الرأسمالي ولليمين عموماً..
وذكرت أهم الفروقات بين اليمين واليسار، وعلى رأسها أن الأول يمثل الفكر الرأسمالي المؤيدة للسوق الحرة دون تدخل الدولة ويعطي الأولوية للمبادرة الفردية، والثاني يمثل الفكر الاشتراكي أو الاقتصاد الموجه من الدولة ويعطي الأولوية لمبدأ عدالة توزيع الثروة..
وقد وصلت المقالة إلى لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي ممثل اليسار العالمي وتراجع اليسار، وأصبح العالم يميل لليمين وبقوة، بينما كان مدى القياس عالمياً بين اليمين واليسار يميل لليسار تدريجياً طوال مائتي عام منذ ظهور المصطلح مع الثورة الفرنسية.. وأصبح العالم يميل لليمين وبقوة، وصار كثير من أحزاب الوسط يصنف على أنه يساري مثل أحزاب الاشتراكية الديمقراطية وبعض الأحزاب اللبرالية، وصار اليمين المتطرف يعد يميناً وسطيا..
انهيار السوفييت سبقه عدة مقدمات جعلت اليسار العالمي يضعف تدريجياً، فقد تبنت دول يمينية في الغرب بعض الأساليب اليسارية كتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية، ودعم بعض حركات التحرر في العالم الثالث، وإدخال الاقتصاد المختلط، وفي نفس الوقت كان للاتحاد السوفييتي مواقف ضد تحرر بعض الدول مثل بلدان أوروبا الشرقية، بل وأصبح يحتل دولاً كما فعل في أفغانستان..كذلك فإن البيروقراطية المتخشبة في الاتحاد السوفييتي قابلها صعود وحيوية في أقصى اليمين الرأسمالي (التاتشرية والريجانية) في ثمانينات القرن المنصرم.
لذا عندما سقط الاتحاد السوفييتي، تساءل البعض إذا كان ذلك يعني نهاية اليسار أو على الأقل تراجعه لدرجة أن التقسيم يمين - يسار لا يشكل مقياساً مفيداً في تصنيف الاقتصاد السياسي.. فاليسار الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفييتي مادياً أو معنوياً أصبح في العراء يواجه يميناً قوياً.. والصين التي دعمت كثيراً من الحركات اليسارية لهت بنفسها، وغدت تراجع كافة مبادئها وإيديولوجيتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يبق من شيوعيتها سوى الاسم، بينما أصبحت سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الدولة في طريقها للمراجعة..
ومصطلح يمين - يسار لم يتعرض إلى تلك الضربات فقط، بل واجه تحديات عديدة أخرى، فقد ظهرت جماعات ضغط وحركات مؤثرة يصعب تصنيفها يميناً أو يساراً، مثل جماعات الحفاظ على البيئة، وتحرر المرأة، والدفاع عن الأقليات.. وإن كان البعض يرى أن هذه الحركات أقرب لليسار باعتباره ينادي بالتحرر الاجتماعي دائماً، على خلاف غالبية اليمين الذي ينادي بالمحافظة..
وتعد العولمة وما أطلق عليه النظام الدولي الجديد من أكبر التحديات التي واجهت مصطلح يمين - يسار، وذلك من عدة صور. فقد أظهرت ثورة المعلومات نمطاً جديداً لوسائل الإنتاج فأصبحت المعرفة سلعة أساسية، فبإمكان قرص مدمج مبرمج القيام بعمل مئات أو آلاف العمال، مما يعني أن بعض وسائل الإنتاج لم تعد حكراً على الطبقة البرجوازية كما كان اليسار يعلن ذلك دائماً.. وهذا يعني جزئيا أيضا أن العلم والتكنولوجيا أصبحا متاحان نسبياً للجميع ولم تعد حكراً على الدول الغنية اليمينية كما كان اليسار أيضا يكرر..
كما أن العولمة أو النظام الدولي الجديد وما أفرزه من شركات متعددة الجنسيات أضعف اتحادات العمال في مواجهة أرباب العمل وكبار رؤوس الأموال.. فالفارق الهائل في معدل الأجور بين الدول أضر بتوحيد مصالح العمال وأضعف الاتحادات الدولية للعمال، وصار الشعار اليساري الذي أطلقه ماركس: (يا عمال العالم، اتحدوا في خبر كان!!).. كذلك فإن النمط الاقتصادي وحمى الاستهلاك الناتجة عن النظام الدولي الجديد أفرز طبقة موظفي الخدمات، وأصبحت من أكبر الطبقات في سوق العمل، بينما صارت طبقة العمال لا تتعدى رُبع عدد الفئات المنتجة، في حين كان العمال يشكلون النسبة الساحقة من الفئات المنتجة في الدول الصناعية، وصار المبدأ اليساري الماركسي (دكتاتورية البروليتاريا) أو سيطرة الطبقة العاملة لا معنى له.. كما أن الفرز الطبقي التقليدي لطبقتي البرجوازيين والعمال الذي ظل سائداً حتى السبعينات في الدول الصناعية، والذي كان يدعم التصنيف الاقتصادي السياسي يمين - يسار، هذه الفرز ظهر بدلاً منه العديد من التحت طبقات أو الشرائح ولم تعد حدود الفرز واضحة بينها Pascal Perrineau ..
وفي هذا السياق العالمي المتجه يميناً، ظهر المحافظون الجدد بقوة في السنوات الأخيرة بالولايات المتحدة الأمريكية، وظهر مع العولمة فارق بين اليمين القديم والحرس القديم للمحافظين من جهة وبين المحافظين الجدد أو اللبراليين الجدد كحركة اقتصادية رأسمالية حادة من جهة أخرى.. فاليمين القديم يرفض ذوبان الهوية الذي تسببه العولمة الرأسمالية ويطالب بأنظمة حماية من الدولة القومية، بينما اليمين الجديد (المحافظون الجدد) يعتبرون التركيز على الهوية تقوقع وانعزال، ويعتبرون تدخل الدولة لمزيد من نظم الحماية ضرب للمبدأ الرأسمالي الأول وهو حرية التجارة والمبادرة الفردية.. وصار جزء كبير من اليسار التقليدي يقف إلى جانب اليمين التقليدي، في مسألة تدخل الدولة في الاقتصاد!! وهنا المأزق الكبير لهذا التصنيف يمين - يسار، فقد اعتبره كثير من المحافظين الجدد مقياس غير دقيق، لأن أهم فارق بين اليمين واليسار التقليديين في الاقتصاد السياسي أصبح فارقاً غير واضح..
وثمة حالة عالمية لا بد من التطرق إليها قبل أن نختم قصة اليمين واليسار.. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي يعتبر مصدر التهديد الأول للولايات المتحدة، ظهر خصم جديد لهذه الأخيرة متمثلاً بالحركات الإسلامية المتشددة، وحيث إن هذه الحركات تمثل في ميزان يمين - يسار أقصى اليمين، وحيث إن خصمها أيضا يمثل اليمين ومن ضمنه أقصى اليمين، فإن التوجه العالمي ازداد ميلاً نحو اليمين.. فعندما كان اليمين العالمي يواجه اليسار العالمي، كان مضطراً لبعض التنازلات الطبيعية، ولكن مع عدم مواجهة اليسار العالمي لليمين، أصبح هذا الأخير يتوجه لمزيد من اليمينية في مواجهاته لأنواع مختلفة من اليمين المتطرف.. وفي كل الأحوال أصبح مقياس يمين - يسار قليل النفع، كثير اللبس..
التحول الكبير في القصة حدث هذه الأيام في خطة الإنقاذ الأمريكية للأزمة المالية، حتى علق البعض متهكماً بأن الصين أصبحت رأسمالية وأمريكا صارت اشتراكية.. ومن هنا تسأل العديد من المفكرين عن جدوى التصنيف يمين - يسار في القرن الواحد والعشرين، حيث لا تظهر الفروقات متماسكة، بل أصبحت تخضع لاعتبارات السياسة المحلية وتاريخ وظروف كل بلد.. كما أن كثيراً من أفكار كل طرف امتزجت بأفكار الطرف الآخر، حيث كما أسلفنا وافق اليمين التقليدي بتدخل الدولة في الاقتصاد وبالتأميم، في الوقت الذي وافق اليسار التقليدي في الغرب (كأحزاب العمال والاشتراكية) بالخصخصة، فما الذي يُظهر التمييز بين اليمين واليسار؟ ورغم هذه التساؤلات فلا يزال هذا المصطلح يمين - يسار يستخدم وبقوة، ربما منتظرين مصطلحاً آخر أدق تعبيرا..!؟
alhebib@yahoo.com