كريس, متشرد أمريكي أبيض في العقد الرابع, أراه يقف يومياً أمام مقر عملي في أحد شوارع بوسطن من الساعة السابعة صباحاً إلى قبيل غروب الشمس, يسأل المارة بلا كلل بأن يعطوه (فكة), قال لي زميل في العمل بأنه يراه يومياً منذ أربع سنوات.
تشجعت يوماً وسألته: لم لا تبحث عن عمل: ابتسم وقال: تراكمت علي الديون بسبب الفائدة وبين يوم وليلة حجزوا كل شيء لتسديدها ورموني في الشارع ولم يكتفوا: إن عملت الآن فسيحجز جلّ راتبي لتسديد المتبقي. شكراً لن أعمل لهم, أفضل العيش هكذا. جشع المقرضين هو المتسبب في الأزمة المالية العالمية الحالية، شرارة الرهن العقاري التي فجرت الأزمة لا تعدو كونها فقاعة صغيرة من فقاعات الجشع انفجرت. تتحدث خطة الإنقاذ التي أقرها مجلس النواب مؤخراً عن شراء أصول الديون التي تراكمت على المؤسسات المالية الأمريكية لتوفير السيولة لتمكينها من الإقراض مجددا والمضحك أن التوسع في الإقراض هو سبب المشكلة لكن العجب يزول عند الانتباه إلى أن الإقراض وإعادة الإقراض هو أساس الاقتصاد الحديث. بل هو المصدر الأول لطباعة مزيد من الأموال لتوفير السيولة اللازمة لتسيير الأعمال الإنتاجية الحقيقية.
تبدأ القصة عندما توسع الأوربيون في بداية الحقبة الاستعمارية في استكشافاتهم التجارية ولجأوا إلى المقرضين بكثافة لتمويل رحلاتهم.
كان لهؤلاء المقرضين الرأسماليين أماكن آمنة لحفظ المدخرات يلجأ لها الناس ويدفعون لهم مقابلاً لحفظها. مع ازدياد الطلب على القروض من قبل التجار استغل هؤلاء الفرصة, وعرضوا على الناس اقتراض مدخراتهم بفائدة بسيطة بهدف إعادة إقراضها بفائدة أعلى وكانوا يصدرون سندات الأمانة وصكوك الدين واضعين النواة للبنوك التجارية الحالية.
ثم لاحظوا بعد فترة بأن هذه الصكوك والسندات يتم تداولها عوضا عن الذهب فكانت الأساس للعملات الورقية. لاحظوا أيضاً أن قلة يأتون للسؤال عن الذهب المقابل لها. ازداد جشعهم وأصبحوا يصدرون بعضا منها بدون مقابل حقيقي من الذهب معتمدين على سمعتهم التجارية. لسبب ما تبنت الحكومات الإمبراطورية لاحقاً طريقتهم ووضعت التشريعات اللازمة لضبط العملية. هذه التشريعات تساهلت أكثر مع ازدياد الطلب على القروض في منحهم القدرة على الإقراض بالاستناد على هامش قليل من الذهب. تطور الأمر لاحقا ليفك الارتباط بالذهب ويعتمد على العرض والطلب في إصدار القروض الجديدة وبالتالي طباعة أموال جديدة.مع الأزمة الراهنة, الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على المحك ودعوات متزايدة من أقطاب القوى العالمية لوضع أسس جديدة للنظام المالي العالمي.
تشريعات دستورية وضريبية بريطانية جديدة حاولت معالجة أساس المشكلة (الإقراض وإعادة الإقراض) فأتت قريبة من المالية الإسلامية. بل إن ورقة توصية من مجلس الشيوخ الفرنسي صدرت مؤخراً تنصح بالاستفادة أكثر من طرق التمويل الإسلامية.
تبدو فرصة تاريخية سانحة أمام المصرفية الإسلامية في نقل دورها من إيجاد حلول ترويجية للمنتجات المالية إلى المشاركة بفعالية في وضع الأسس لنظام مالي عالمي جديد.