من حق كل قادر على القول في الحقوق العامة والأفكار المتداولة أن يبوح بما يعتمل في نفسه من آراء ومواقف ونقد ومساءلة، متى كانت حرية التعبير المنضبطة والتفكير السليم متاحة ومكفولة،..
.. وذلك أضعف الحقوق في دولة المؤسسات، ولن تتأتى الاستقامة على المأمور إلا بمتابعة ومساءلة ومناصحة لا يكون فيها القائل وجلاً ولا السامع ضجراً، غير أن الكلام السوي لا يمكن أن يُلقى على عواهنه، وليس من مصلحة الأمة أن يلج المرجفون في عتو ونفور، ولا أن يقال النقد والتوجيه في حالة من التوتر والانفعال وجهل الذات والممكن، ولا أن تثيره مواقف آنية ولا أن تحركه أغراض شخصية، كما لا يجوز دفع السوء بما هو أسوأ منه إذ أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) والكلام في النهاية دعوى والدعاوى بلا بينات أهلها أدعياء، وكل صامت مهيب، فإذا نطق صعد أو سقط، ومن الحكم المتداولة: (تكلم حتى أراك) و(كم كلمة قالت لصاحبها دعني) والمتقحم بالقول إما: شجاع لا تأخذه بالحق لومة لائم، أو مهرج يغيّ النفوس باهتياجه الأعزل ولغوه الممل، وقَدَرُ المشاهد كلها أنها رهينة الاختلاف، وما يبعثه الاختلاف في النفوس من ضيق ونفور وضجر لا يقلل من أهميته وحتميته، والحياة لا تحلو بدونه، كما أن المسائل لا تتحرر والمعارف لا تتأصل والأفكار لا تنضج إلا بالمراجعات، وكل عالم راد أو مردود عليه، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا من لا ينطق عن الهوى.
ومن هنا فإن التحفظ لا يكون على الاختلاف من حيث هو، ولكنه في اسلوب أدائه، وفي حدَّة المواقف، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وفي الإصرار على أن قول المخالف لا يحتمل الصواب، وقول ذي الرأي الفطير لا يحتمل الخطأ، وفي الوقوع في أسر الجاهزيات وبرمجة الذات قبل التداول والاستبانة وانتظار ما يتجلى بعد الجدل، فما من متصدٍّ لأي قضية إلا هو بين قادح يقول فيها ما قال (مالك) في الخمر، أو مادحٍ يعلو بها فوق هام السحب، والمنصفون المتحَرُّون للصدق والمحافظون على المصداقية قليل ما هم. وكم من منطوٍ على أفكار وآراء ومواقف سليمة وصائبة تتجمد على شفتيه أفكاره مخافة أن يكون مادة رخيصة للاشاعات المغرضة والإفك الأثيم، ورحم الله امرأ كفَّ الغيبة عن نفسه.
والدولة المدنية - بمفهومها العربي لا الغربي - دولة المؤسسات لا يتحقق وجودها المشرِّف إلا من خلال الفعل والتفعيل لمؤسساتها العملية والعلمية في ظل سيادة القوانين والأنظمة واللوائح، وكل مؤسسة تمارس عملها في ظل كل هذه الضوابط معرضة للتجليات والاخفاقات، ولا تنفك من منتفعين أو متضررين، متفقين أو مختلفين، كما أن لتجلِّياتها أقواماً يمسهم طائف من الضرر، فالتجلي لا يكون إلا في سبيل الإصلاح، ولا إصلاح إلا في ظل الخلل المتعمد أو الجهل العارض، والخلل لا يكون إلا بجَهَلَةٍ أو منتفعين، وهؤلاء يمسهم طائف الإصلاح فيصطرخون في أتونه، وما اصطراخهم إلا ادعاء كاذب لتعويق مسيرة الإصلاح وتفادي ما يمكن تفاديه من الأوضاع السيئة المستفاد من بقائها، وبالجملة فإن (مصائب قوم عند قوم فوائد) هذا على مستوى الأداء العملي، أما على مستوى تلاحي الأفكار وتلاقح العقول وتصادم المفاهيم وصراع الآراء فحدث ولا حرج، والتاريخ الفكري وسير أعلام النبلاء والمناقب تفيض بالتناقض وما اختلف العلماء والنقاد والمفكرون إلا من بعد ثورة الاتصال والانفجار المعرفي، وكل خطأ في الممارسات الحسية أو في سائر الاجتهادات الفكرية لا يكون إلا ناتج عمل أو إعمال فكر لم تكتمل آلياته، ولم تتضح مناهجه، ولم تنضج مواده.
ولقد يكون من المناسب أن ننكب عن ذكر اختلاف التيارات الفكرية وأثرها على الأداء الاجتماعي والثقافي جانبا، ولو إلى حين، كي نفرغ لمواطن النزاع بين المؤسسات العملية والمستفيدين أو المتضررين منها، والفراغ لهذا الجانب يبدي سوءات الفهم السقيم، كما يكشف عن سوء التوقيت والتقدير وتنازع البقاء للمنْتَفِعِ أو الإبقاء على المنتفَعِ به، ومتى عرفنا أن الخطأ ابتداء ولد شرعي للعمل، هان وقعه، غير أن المشكلة في تخطي الخطأ إلى الخطيئة، ولا يكون ذلك حتى يتبين للمسؤول أنه اقترف الخطأ، ثم لا يتحرج منه، ولا يتحرف للخلاص من عواقبه، بل قد يصر عليه، وكم من مسؤول تأخذه العزة بالاثم حتى لَيُبْلي بلاءً سيئاً في سبيل الإصرار على الحنث والاستمرار بالغي، وحسب هذا الصنف الخسران المبين.
وفرق كبير بين الخطأ والتقصير والعجز، والمتعقبون للمؤسسات قد لا يفرقون بين تلك الدركات، وقد لا يفكرون بمدى قدرة المسؤول على تفادي الأخطاء وتلافيها أولاً بأول، وقديما قيل: (لعلَّ له عذر وأنت تلوم) وكم من مساءلة جاءت بعد فوات الأوان، وفي الأمثال: (سبق السيف العذل)، وعيب البعض منا أنه لا يحسب أي حساب للتوقيت ومن ثم يأتي متأخراً، وفي الوقت الضائع، وقد يعرف البعض منا النقص أو الخطأ أو التقصير أو العجز في وقته المناسب، ولكنه ربما يكون متصالحاً مع المسؤول، ولقد قيل: (وعين الرضا عن كل عيب كليلة).
وكل هذه التحفظات والاحتمالات لا يكون شيء منها داعياً إلى السكوت أو الإغماض على التجاوزات أو التقصير في المساءلة المشروعة ف(الساكت عن الحق شيطان أخرس) ولست مستبعداً أن يظل الناس في خصام مستطير وردود أفعال منفعلة، فالجدل اكسير الحياة، والاختلاف من سننها ولهذا خلقهم (غير أني أود لسهام القول أن) تصيب من الأمر الكلى والمفاصِل وأن تكون في مستوى الحدث وعلى قدره بحيث تكون محفزة لا مثبطة، فالجاد الناصح حين يرقب كلمة ثناء العدل أو صمت المتردد، ثم يفاجأ بهجاء جارح يصاب بالاحباط، والشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم والنفس الامارة بالسوء قد يتضافران عليه حتى ينزعان منه الجد والاخلاص ويحملانه على القول: (عليَّ وعلى أعدائي) أو يأتمر بمقولة العامة: (احفظ ولا تصلح) والمهمل أو المستغل أو المتلاعب و العاجز حين يأمن أحدهم المساءلة يتمادى في الغي، ويغري من حوله باقتفاء أثره.. (ومن أمن العقاب أساء الأدب كما أنه وكما يقول (صُلاءة بن عمرو) المعروف ب(الأفوه الأزدي):
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تُهْدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولَّت فبالأشرار تنقاد
وأثر الفساد أقوى من تأثير الصلاح
و(التفاحة) الصالحة لا تصلح الفاسدة ولكنها تفسد بالمجاورة، والخطورة ليست وقفاً على القول ولا على الصمت، الخطورة في القول الخطأ أو في الصمت على الخطأ، ومن ثم فإن العقلاء من يقدرون ويوقتون، فلا يجازفون في القول، ولا يؤخرونه عن وقته، أو يقولونه قبل الحاجة إليه، أو بعد فوات الأوان، أو يطلبون ما لا يستطاع، وفي الحكم: (إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع).
ولما كان وقع الكلام كوقع السهام تعاقب المربون من العلماء على الحديث عن حصائد الألسن، إذ كل فتنة مبدؤها الكلام، والقول غير المسؤول يفسد ولا يصلح، ولقد حَفَلَ الذكر الحكيم بالدعوة إلى ترشيد القول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ}، وفي الهدي النبوي أحاديث وآثار وحكايات وقصص وأحداث، ولأن العصر عصر إعلام، (وآية هذا الزمان الصحف)، فإن كافة المؤسسات عرضة للقول ونقيضه، والخطورة في الدوافع وأساليب الأداء، فكم من كاتب لا يتحرى الصدق ولا يعنيه إلا أن يقول الناس عنه، وقد قيل، وكم من آخر لا يحسن القول فيسيء من حيث يريد النفع، وإيغال الصحافة في اللغو المسف حفز البعض على التفكير بإنشاء (محكمة للآداب) تلاحق هذا الصنف من الكتاب، وإذا كنا ننحي باللائمة على الكتبة المجازفين فإننا ننحي بلائمة أكبر على الذين لا تغنيهم الآيات والنذر ولا يتورعون من تربص الدوائر بالكتاب الناصحين، واستقامة الأمور لكل الأطراف تتطلب التوازن والعدل، وما نريده في مسيرة الحياة العملية أن تشيع قيم الإسلام الأخلاقية والسلوكية.. وأن يتبادل كل الأطراف الثقة والاحترام وحسن الظن، وأن نتفادى الطوباوية أو الارتكاس في الواقع والتسليم له.