لن أخوض في أسباب وتفصيلات الأزمة المالية العالمية التي نشأت وتفاقمت في أمريكا، ثم ألقت بظلالها السلبية على الأسواق العالمية بما فيها العربية والخليجية تحديداً،فأهل المال والاقتصاد كتبوا عنها بإسهاب..
.. بما لا يسع المجال للتكرار أو مزيد من التفصيل، لكن ما أود التطرق إليه في هذا الحيز المتاح هو مصير (الليبرالية الاقتصادية) الغربية التي تتبنى في الأساس النظرية الرأسمالية، فالأزمة المالية كشفت خللاً كبيراً في هذه النظرية التي طالما تباهى أصحابها بها وصاح دعاتها بكونها النظرية الأصلح والأفضل لكل اقتصاديات العالم، خصوصاً بعد فشل النظرية الاشتراكية في أنموذجها الروسي الذي يعد معقل هذه النظرية الماركسية في إدارة المال.
إن الليبرالية الاقتصادية -الغربية- تقوم على تحقيق ثلاث قيم (حرية الملكية) و(مبدأ الاستقلال) و(حق الاختيار) في مجالات المال والأعمال وقطاعات الإنتاج وقنوات الاستهلاك، مرتكزةً على شعار صاحب النظرية الرأسمالية آدم سميث (دعه يعمل دعه يمر)، الذي وضع أسسها الفكرية وكرّس فلسفة (الفردانية) على اعتبار المجتمع مجموعة أفراد وكل فرد له حق الحرية والاختيار والملكية الخاصة، من خلال كتابه الشهير (بحث في ثروة الأمم)، المنشور عام 1776م، حيث يرى فيه أن الرأسمالية تمتلك قوة ذاتية أشبه باليد السحرية تحول المصلحة (الخاصة) إلى فضيلة (عامة) متى ما تُركت شأنها، عندما يتولد واقع اقتصادي فعال منظم ومتطور يحقق المنفعة معتمداً أسساً أهمها: (أن المال هو أساس الفروقات الاجتماعية، وأن السعي للربح هو الدافع للعلاقات الاجتماعية، وأن الطبقية الاجتماعية أمر طبيعي وأزلي غير قابل للإلغاء، وأن الفرد كيان مستقل وحر التصرف والاختيار مستهلكاً أو منتجاً أو مستثمراً، وأن لا تكون للدولة سلطة التدخل)، وبهذه (الليبرالية الاقتصادية) ذات الفلسفة الرأسمالية تم تكريس سطوة الملكية الخاصة (الفردية) عبر المؤسسات من مالية وغيرها، والأفراد من ملاك ومستثمرين ومستفيدين وغيرهم، في مقابل الرفض التام والقاطع لتدخل أي سلطة، سواءٌ كانت سياسية (الدولة)، أو كهنوتية (الدين)، أو اجتماعية (العادات والتقاليد)، وأن (نفع) الفرد والمجتمع هو مقياس السلوك، والخير الأسمى هو في إسعاد الإنسان عن طريق الاقتصاد المفتوح والسوق الحر. فهل كان هذا النفع وتحققت سعادة الإنسان؟ أم أن الإنسان العادي سواء في أمريكا أو خارجها هو أول من جلدته سياط التعاسة عندما هوت على واقعه مع مؤشرات الأسواق العالمية التي هوت إلى مستويات متدنية على خلفية الإفلاس الذي ضرب أعرق المصارف الاستثمارية، والانهيارات التي صارت شبحاً يلاحق الأنظمة المالية للدول الغربية وغير الغربية.
إن الأزمة كشفت خللاً حقيقياً في فلسفة (النظرية الرأسمالية) كما أشرت سلفاً لأنها ألغت اعتبارين يمثلان عماد النظرية وهما (حرية السوق وعدم تدخل الدولة)، ما يعني أن (الليبرالية الاقتصادية) اليوم التي طالما تغني بها البعض المهووس بالأنموذج الليبرالي الغربي، قد فقدت بريقها وفاعليتها أيضاً على مستوى المشروعات الحضارية والقيم الإنسانية والمعاملات التطبيقية، وصارت في مرمى النقد الفعلي القائم على شواهد اقتصادية، وأدلة حقيقية من واقع الاقتصاد الأمريكي، ف(الفوائد الربوية) سحقت آدمية الإنسان وجعلته مجرد سلعة في عجلة الرأسمالية لجلب السيولة المالية، عندما وقع في فخ الإقراض (متصاعد الفائدة) لتوفير متطلبات حياته الأساسية من مسكن ومأكل ومركب، وما تبع ذلك من (بيع الديون) الخاصة بالعقار، من مقترضين (مواطنين أمريكيين) إلى مستثمرين (أجانب) عبر بنوك مصارف مالية تعمل على تسويق العقار بالقروض مقابل الرهن الذي بلغت خسائره في أمريكا 300 مليار دولار وخارجها 550 مليار دولار، فكانت البداية التي جرت أمريكا والعالم إلى حياض الأزمة المالية الحالية، التي يقال إنها في بدايتها وأن الأسوأ لم يأت بعد، ما اضطر الإدارة الأمريكية للتدخل في السوق، وهذا نقض لنظرية الرأسمالية. ناهيك عن أن الأزمة لا تقف عند مأزق (الرهن العقاري) بل تتعداه إلى أسباب غائرة في نظم الاقتصاد العالمي لعل أبرزها أن (الدولار) صار غطاءً نقدياً بديلاً عن (الذهب والفضة) بدايةً من عقد السبعينيات الميلادية، كما أن القروض (الربوية) التي تحكمت في مجمل العمليات المصرفية تجاوزت فوائدها المتراكمة الدين (القرض) نفسه، إضافةً إلى أن شرط (التقابض) مستبعد من قبل عمليات القروض القائمة على بيع وشراء السلع. هذه المعاملات وغيرها كانت كفيلة بكشف عورة الليبرالية عن سوأة الرأسمالية.
في المقابل هي فرصة سانحة للهيئات الشرعية والمنظمات الإسلامية وعلماء وخبراء المسلمين الاقتصاديين لتقديم (فلسفة الاقتصاد الإسلامي) بنظمه ومعاملاته وقيمه، خاصةً أن هذه الفلسفة تمتاز عن (الرأسمالية) التي تكرس للملكية الخاصة على العامة، وعن (الاشتراكية) التي تعلي من الملكية العامة على الخاصة، إنها فلسفة تعتبر الملكيات على ثلاثة أنواع (ملكية خاصة) وهي الملكيات التي يتصرف بها الأفراد والمؤسسات، و(ملكية عامة) وهي التي تعود للشعب من حيث استخراج موارد الطبيعة واستثمارها وما في حكمها، و(ملكية محددة) وهي التي ترتبط بعمل الدولة وإيراداتها كالتجارة والمصانع والضرائب وغيرها، وكلها تخضع لمرجعية النص الديني (القرآن الكريم والسنة المطهرة) وليس لحرية مطلقة في سوق حر يفتقر للقيم الإنسانية والمنهج الرشيد فيأكل الكبير الصغير، لهذا نجحت كثير من الأعمال المالية المصرفية ذات الفلسفة الاقتصادية الإسلامية، ومن خلال مصارف غربية في بلدان أوروبية.
Kanaan999@hotmail.com