عندما كنت صغيرا تعلق قلبي بفيلسوف غربي يدعى جان بول سارتر. وقلت يدعى عمدا. لا لأنه قليل الشأن ولكن حتى نتفادى القيل والقال. لم أكن حينها أعرف عن هذا الفيلسوف سوى أنه فيلسوف ومفكر وفرنسي وله إسهامات في دعم حقوق الشعوب ومدافع شرس عن الحرية. ولا أنسى صورته التي كانت تنشر في الصحف وعلى أغلفة كتبه وهو يفكر ويشفط سيجارته كعادة مفكري الستينات. مضافا إلى ذلك كثرة استشهادات الكتاب العرب والعجم بأقواله ومواقفه. وقد روعني منه أيضا مؤلفه (الوجود والعدم) الذي دفعت فيه خمسة وثلاثين ريالا. مبلغ عظيم على حدث في السنة الثالثة المتوسطة. أخذت الكتاب إلى البيت في حالة من الدهشة والروعة والانبهار. تصور أن تحمل كتابا مكونا من حوالي ألف صفحة من البطحاء إلى شارع العطايف. راحت الأيام وسارتر يرسب في أعماقي ويكبر في لا وعيي ويتضخم. كانت الصحف السعودية والعربية تمطرنا بسيل من المدائح. زرع في وجداني بطريقة هادرة لم تسمح لي بأقل درجة من التفكير والتأمل. لم أقرأ مقالا واحدا يهدئ من اندفاعي. كان الرجل داعية للحرية والإنسانية واستقلال الشعوب والالتزام. كان كبيرا في فكره وأسلوبه وعلمه وقدراته. حتى جاء ذلك اليوم الذي قرأت فيه حوارا مع كاتب فرنسي يدعى (الن روب جرييه) تنسب إليه الرواية الحديثة. قال في المقابلة أن سارتر متقلب ومنافق ومصلحجي. ثم ذكر تجربته معه في زيارة الاتحاد السوفييتي ضمن وفد ثقافي فرنسي. لأول مرة في حياتي أسمع من يقول كلاما في هذا الرجل غير المديح. سارتر صاحب الوجود والعدم والذباب و(ما هو الأدب) يقال عنه هذا الكلام.. في اللحظة التي غادرني فيها الذهول اجتاحني الغضب. فكرت فعلا أن أرسل له خطابا لهذا النكرة أقول فيه اتق الله في مفكرينا. من أنت يا (ابن جرييه) حتى تتحدث عن سارتر. لم يبق إلا الرويبضة يتحدثون عن المفكرين والفلاسفة. يا هذا أمسك لسانك وكف عن الهمز واللمز.. من حسن حظ ابن جرييه أني لم أكن أجيد الفرنسية ومن حسن حظه أيضا أن الأمريكان لم يخترعوا النت بعد. ولكني لم أكتم غيظي. كتبت مقالا عبرت فيه عن عظمة هذا المفكر ودوره وفكره وأخلاقه وفضله لعل عنوانه: (تحية إجلال وتقدير إلى مفكرينا الوجوديين رغم أنف الشانئين)، ورغم ذلك لم أشعر أني أبرأت ذمتي. لم أكن حينها أعرف معنى الأسلوب الركيك والضعف في اللغة وأن الذمة لا تبرأ باللعان والسباب. وإذا كان سارتر مفكرا حقيقيا فهو ليس في حاجة إلى طالب في المتوسطة للذب عنه ولا حتى إلى جيش من الصبية المبرمجين. كان علي أن أمضى سنوات كثيرة لأتعلم بأني لست مسؤولا عن سارتر أو غيره سواء كان مفكرا أو عالما أو فقيها أو صيدليا. قرأته من جديد في مناسبات مختلفة. اكتشفت أن من حق الن روب جرييه أن يقول فيه ما يريد. ليس لأن سارتر كان سيئا لكن لماذا يأسرني سارتر أو غير سارتر. بلغ بي الأمر أن تمنيت أن ألتقي الن روب جرييه لكي أشكره على أول درس في طريق الحرية الحقيقية. أشكره لأنه حررني من أسر الرجال والزعامات والموجهين والقياديين وفك برمجتي.
***
ملاحظة: أقدم اعتذاري للقراء عن غياب يومي الأربعاء والسبت. حدث كل شيء بسبب ارتباك في الاتصال بيني وبين التحرير
Yara.bakeet@gmail.com