Al Jazirah NewsPaper Tuesday  28/10/2008 G Issue 13179
الثلاثاء 29 شوال 1429   العدد  13179
لطائف من سيرة سماحة إمام الحرم المكي
د. عبدالمجيد محمد الجلال

حين يُؤرّخ لسِير أئمة الحرم المكي منذ دخول منطقة الحجاز في حوزة الحكم السعودي في عام 1343هـ، فإنّ من الأعلام البارزة في هذه السِّير سماحة الإمام الشيخ محمد بن عبد الله السبيِّل النجدي الحنبلي حفظه الله.

هذا الإمام الجليل ارتبطت سيرته الفكرية والعلمية والمهنية بالحرم المكي لعقود خلت، بل إنَّ أروقة هذا البيت العتيق وساحاته، ستظل شاهداً ومؤرخاً لهذه العلاقة الوجدانية والإيمانية التي تربط هذا العالِم بهذا البيت العتيق.

هذه العلاقة الوجدانية أثمرت صفحات بيضاء ناصعة من الأعمال الجليلة، والجهود الكبيرة لهذا الإمام، لعلّ من أبرزها إمامة الحرم المكي، وإلقاء الدروس الشرعية فيه، فضلاً عن جهوده العلمية في مجال التأليف والتأصيل الشرعي.

وفي هذه العجالة، ليسمح لي القارئ الكريم بتدوين هذه الوقفات التأملية والانطباعية المستوحاة من سيرة سماحة الإمام السبيِّل، وهي بطبيعة الحال تخرج عن إطار الدراسة المنهجية، إذ لها مقام آخر.

الوقفة الأولى: حول منهج الوسطية:

في الأول من شهر المحرم من عام 1400هـ عبث الخوارج بالبيت المكي، وسفكوا الدماء المعصومة، وحاولوا إحداث الفتنة والفرقة والشقاق بين أبناء بلاد الحرمين، مستندين إلى منهج فكري غاية في التطرُّف والإفساد، لا يمت بصلة إلى تعاليم هذه الشريعة السمحاء وقيمها، وكان سماحة الشيخ السبيِّل شاهداً وحاضراً لكل تفاصيل وأحداث هذه الفتنة وأعمال البغي، فاستشعر بما يحمله من علمٍ شرعي، وفكرٍ سوي، وانتماءٍ لوطنه وأُمته الإسلامية، خطورة هذا النهج على البلاد والعباد، والأمن والاستقرار، والحقوق والمكتسبات، وأنَّ منظِّري هذا النهج وأتباعهم، قد ضلّوا عن جادّة الحق والصواب، فخرجوا عن المنهج الشرعي القويم في العمل والفكر والمعتقد، بفهم خاطئ وتفاسير ضيقة النَّظر، لمبادئ وتعاليم الدِّين الإسلامي السمح، والتسرُّع في إصدار فتاوى التكفير دون استناد إلى مسوغات شرعية، أو منطق عقلي، ومن ثمَّ فإنَّ هذا الباب الذي يلج منه هذا الفكر الضال ودواعيه ينبغي إغلاقه، والتصدِّي لأتباعه بكل الوسائل الشرعية الممكنة، وفي مقدمة ذلك تبيان أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها في كل مناحي الحياة على الوجه الصحيح، والتنبيه إلى باب (فقه الخلاف)، وأهمية التمسُّك بقواعده وضوابطه، وأصوله ومرتكزاته، بما يحفظ الأمن والاستقرار، والأخوة والإيمان، ويزيد من جهود التنمية والعمران، والبناء والإصلاح.

انبرى سماحة الشيخ لهذه المهمة الإستراتيجية، واستغل بكل منهجية واقتدار منبر الحرم المكي، ومجالسه ودروسه العلمية، للتحذير من هذا الفكر الضّال، ودحض مسوغاته، ومواطن شبهاته، داعياً عموم المسلمين، خاصة الشباب منهم، إلى التروِّي والبصيرة، وأخذ العلم الشرعي من مصادره الصحيحة، ومناهجه المعتبرة، وأدواته المقررة.

أثمر هذا الجهد العلمي لسماحة الشيخ، فضلاً عن جهود الدولة وأهل الحلِّ والعقْد في هذه البلاد المباركة في بناء قاعدة صلبة تستند إلى قيم الوسطيَّة، والمحبة والتسامح والأخوّة والسلام، انضوى تحت لوائها جُلّ أبناء المجتمع السعودي، فكانت كالطَّود الشامخ، عصفت بالموجات المتتالية من بغي الفئة الضَّالة في السنوات الأخيرة .

ولأنَّ (الغلو والتطرّف) ظاهرة ذات أبعاد خطيرة على السِّلم الاجتماعي، فقد كانت الحاجة ملحّة إلى المبادرة بتنظيف الفضاء المحلي من تداعياتها، وفكرها المتزمت، عبر إبراز المعاني والقيم النبيلة لرسالة الإسلام الخالدة الداعية للسلام والأمن لكل الخلق، والتعايش بين الأديان في جيرة كونية بين البشر، عمادها الاحترام المتبادل.

الوقفة الثانية: لطائف من مجلسه العلمي:

في مجلس سماحة الشيخ، لا تتصل الفائدة في الدرس والمحاضرة، وإنما تمتدُّ إلى آفاق أخرى رحبة، تتناول الأسلوب وطريقة الأداء، إذ يحرص سماحته على تبسيط عرض المسائل، وتحريرها دون لبسٍ أو غموض، والبعد عن التعقيدات اللغوية والفقهية.

إلى جانب هذه المكانة العلمية العالية، والدرجة الشرعية الرفيعة، فقد منَّ الله العليُّ القدير على سماحته قدراً فائقاً من السمات والخصائص الشخصية النبيلة، امتلك بها حضوراً فعَّالاً، وتأثيراً قوياً، وإمتاعاً جلياً، استشعره، ويستشعره، كل من يحضر ويستمع إلى أحاديثه، ودروسه العلمية.

من أبرز هذه السمات: التواضع الجمّ، واللطف والبشاشة والخلق الكريم، ورحابة الصدر إزاء كل رأي وفكرة، وسؤال وفتوى.

ومن سمات سماحته كذلك الزهد بالماديات، وبريق الإعلام، وأحاديث القنوات، إذ أنَّه يُفضّل العمل بهدوء وروية وسكينة, ومجالسة الكتب والمؤلفات، ومتابعة النشاط العلمي والمعرفي، وفي السنوات الأخيرة تفرَّغ سماحته للتأليف والتدوين والتأصيل.

وبعد، فإنَّ سيرة سماحة الإمام الشيخ السبيِّل تزخر بالكثير من المآثر والمنجزات والمعطيات، وهذه السطور كما أسلفت قراءة انطباعية قصيرة حول سيرة سماحته حفظه الله ونفع بعلمه وعمله، عموم المسلمين، وأثابه، وأطال في عمره، ليظلَّ نهراً متدفقاً يروي ظمأ العطشى إلى العلم الشرعي الصحيح.

من وصايا لقمان الحكيم لابنه: يا بُنَيَّ جالِسِ العُلَماءَ وزاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فإِنَّ اللهَ يُحْيِي القُلُوبَ بِنُورِ الحِكْمَةِ كَما يُحْيِي الأَرْضَ المَوَاتَ بِوابِلِ السَّماءِ.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد