كنت قد عرضت في الأسبوعين المنصرمين بعضاً من الصور التي يمر بها شريط حياتنا الاجتماعية وهي جزء من مشروع عمل بحثي كبير, أما في مقال اليوم فإنني أختم تلك اللقطة الخاصة بحضور النساء في صلاة التراويح علني أعود في مقالات أخرى ليست متتابعة إلى تسريب بعض من الصور الاجتماعية لهذا العمل. وبما أنه تم تصوير المشهد الخارجي للنساء وهن في الطريق إلى دخول.....
.....مسجد الأمير عبدالعزيز بن فهد بجدة فإنني أختم بالمشهد الداخلي للنساء في صلاة التراويح.
***
صور صلاة التراويح/ المشهد من الداخل
لقطة أولى :
أما إذا انتقلت الكاميرا إلى داخل المشهد في مصلى النساء (لهذا المسجد الذي اتخذ بالصدفة وظيفة العينة لنماذج من السلوك والعلاقات الاجتماعية) لصلاة التراويح والقيام فيمكن متابعة التفاصيل الصغيرة التالية:
مصلى النساء الأساسي لهذا المسجد الذي تدل عليه من بعيد تلكما المنارتان الشاهقتان كأنهما مسلتان من نور تناجيان آيات الله في السماء، ويقع في الدور الثاني من المسجد ببوابة خلفية. إلا أنه يبدو لكثرة المرتادات - أو لسبب آخر أجهله- جرى تسييج الجزء الأكبر من ساحة المسجد المؤدية إلى مدخل النساء الخلفي بالدور العلوي من المسجد بما يشبه (تيزار) الخيام. فأصبحت الساحة أيضا مصلى أرضي للنساء وكنت قد لاحظت هذا السياج من العام الماضي إلا أنه استجد إلحاق خيمة واسعة مكيفة ومزينة بالثريات بما احتل ثلث مساحة ساحة الصلاة المكشوفة التي كان يصلي فيها النساء. فصار للنساء الصلاة في الساحة المكشوفة تحت السماء وإن كانت مسيجة الأطراف أو في الخيمة الملحقة بها أو في الدور العلوي من المسجد. وتستطيع عين الكاميرا أن ترصد أعداد النساء الكبيرة المتواجدة للصلاة في المواقع الثلاثة قبل التنقل في أرجاء المكان. فبمجرد تجاوز ذلك الممر الطويل الضيق المغمور بالمياه بفعل تسريب (ليات) ملقاة في أحواض زرع زينة طافحة بالماء ترطب ماحول الممشى المؤدي إلى مصليات النساء ستلتقط عين الكاميرا ما تستدل به على الأعداد الكبيرة بفضل الله للمصليات في هذا المسجد. فهو مؤثث بكل الأدوات الحضارية الحديثة التي تهيئ المكان لصلاة خاشعة من المايكرفونات الصافية والمراوح والسجاجيد والإضاءة إلا أن أول ما يصافح الفلاش ليدل على كثافة حضور المصليات هو مع الأسف الأعداد الكبيرة للأحذية المفروشة في فوضى (مؤلمة ومنفرة) أمام مدخل ساحة المصلى المكشوفة، وعند باب الخيمة. كأن مدخل المصلى رصيف من أرصفة حراج الأحذية النسائية. هذا بينما على الحائط الأسمنتي الوحيد في الساحة اصطفت طبقتات من الأرفف الخالية مما كان يفترض أن تضم هذه الأحذية أو هكذا خيل للكاميرا. وسواء أرادت المرأة أن تصلي في الدور العلوي من المسجد أو بالخيمة أو الساحة المكشوفة فإنها لن تستطيع أن تفعل ذلك دون المرور بعدد من نقاط البيع المفروشة على الأرض أو المرصوفة على طاولات. بضائع من العطورات الشرقية خاصة البخور والدهن وبعض مواد الزينة النسائية ذات الصبغة السرية (حلاوة) و(شبة) وما أشبه, بضائع ما صار يعرف بالجلبيات النسائية الرمضانية وبضائع من سجاجيد وشراشف الصلاة أو التمور والمعمول المصنع منزليا. ولم تكن عمليات البيع والشراء تجري بعد انتهاء الصلاة وحسب بل كانت تجري أثناءها؛ حيث هناك أعداد من النساء الشابات المتأنقات ممن يقمن بعمليات البيع والشراء معا إلى جانب التجوال أو التسامر الهامس لئلا على ما يبدو يزعجن صفوف الصلاة غير البعيدة تماما من هذه التجمعات في الساحة المكشوفة إلى أن يحين موعد الدعاء عندها يترك البيع والشراء وينخرط الجميع في الصفوف للمشاركة في الدعاء خاصة من قد تكون حضرت وليس عليها صلاة. (وإن كان لا بد أن أضع هنا في جملة اعتراضية ليس إلا قد اعود لتحليلها سيسيولوجيا فيما بعد وهو ما أسرت به بعض النساء لبعض من ان بعض (الخاطبات) يشغلن حواسهن قبل وبعد الصلاة وأن بعض الأمهات والفتيات يحتطن لذلك ببعض الاستعدادات في الملبس والسلوك، والله أعلم).
***
لقطة ثانية :
ذلك في الساحة الخارجية لمصلى النساء أما داخل الخيمة فتصطف المصليات في خشوع لولا ما يخدشه من ركض الأطفال في أرجاء الخيمة والاندساس بين الصفوف مع الضحك والكلام بصوت طفولي عال، أو القفز على ظهور الأمهات وبكاء الرضع منهم فيما شد انتباه الكاميرا وقوف إحدى السيدات في وقت أحد التسليمات لتقول يا أخوات (رأيناهم في الخارج لما تغربنا يعلمون أطفالهم احترام الكنائس فيمشون على أطراف أصابعهم وإن تحدثوا همسوا فكيف بنا. أنا عندي أجمل الذكريات من مرافقتي أمي وأنا طفلة إلى صلاة التراويح أما القيام فأكون في أحلى نومة. لا نقول لاتحضري للمسجد إن لم يكن عندك من يمسك الأطفال أو لماذا لم يناموا إلى الآن. فحضور الأطفال إلى المسجد مع الأمهات تجربة جميلة لكن تحدثي معهم قبل الحضور عن معنى وآداب ارتياد المسجد، وكيف يجب أن يحترموا وجودهم في بيوت الله ويتصرفوا بهدوء على الأقل). كان لوقع هذا الكلام أكثر من ردة فعل من الحاضرات، من قال لها (صلي ودعينا نصلي) ومنهم من أصدر أصوات أمتعاض (إش إش إششش) أو دعوات استحسان إلا أن الكل لا حظ بعض الهدوء فيما تبقى من صلوات تلك الليلة.
***
لقطة ثالثة :
عندما صعدت الكاميرا إلى الدور العلوي لاحظت قلة وجود الأطفال غير أنه كان من الملاحظ كثرة الملاحظات من المصليات على المصليات، مثل لا يجوز أن تتبعي قراءة الإمام وأنت تحملين المصحف مفتوحا بين يديك، أو لماذا تلبسين (شرابا) عليه رسوم نجوم أو لماذا تلبسين عباءة مكتوب عليها (في حفظ الله) أو حروف الأبجدية. وفي ما عدا الجو الخانق نوعا ما الذي كانت تثيره رائحة الحمامات المجاورة رغم عدم توقف سحب مجامر (الدخون) فقد كانت تجمع النساء للصلاة يشكل مهرجانا روحيا للتواصل بين النساء وبين الخالق، ثم بينهن وبين بعضهن في خضم ما يعرف كما أشرنا ب(سيسولوجيا الفضاء (النسوي) وما تنسج شرنقته المغلقة من لحمة تنشأ علاقات حميمية تتسم بالعفوية وبالتضامنية المضمرة خاصة في تلك المجتمعات التي يقوم بعضها على وجود عالمين متوازيين (عالم الرجال وعالم النساء). مع مقتضى الإشارة أن كلا العالمين قد يكونان أحيانا متجاورين وأحيانا متداخلين وأخرى متفاعلين في اتحاد أو في استقلال لا يخلو من نسبية بين مايسمى بالفضاء العام والفضاء البيتي. هذا مع وجود في بعض المجتمعات، وإن فيما ندر منها حالات تكون العلاقة بينهما قائمة على القطيعة أو التنافر أو التنافس أو الإلحاق أو سواه.
أما بعد أن تنتهي الصلاة فإن المسجد يكون في حالة يرثى لها من أوراق الكلينكس وقوارير الماء الفاضية والمخلفات الأخرى المنثورة في أرجاء بيت من بيوت الله. يذهب المصليات ليأتي عدد من العاملات المستقدمات ممن يبدو أنهن انتدبن من قبل مسؤولي المسجد لمهمة التنظيف بينما تعود فوضى السيارات والتدافع أمام المدخل الخارجي للمصلى.
***
والفقرة الأخيرة أعلاه تشير بأن هناك عددا من الأسئلة التحليلية التي يفترض أن تطرحها هذه اللقطات التصويرية من مشهد صلاة التراويح والقيام في مصلى النساء، بعضها يتعلق بالواقع النسوي وبعضها يتعلق بإطاره العام من الواقع الاجتماعي بما يثير سؤال طبيعة العلاقة بين ما يسمى في العلوم الاجتماعية بالفضاء البيتي والفضاء العام بالمجتمع السعودي، وهل هي علاقة تكامل مع استقلال نسبي أو علاقة قطيعة - لا سمح الله- أو سواها. مما يصعب مع هذه الأسئلة السكوت عن سؤال: لماذا تحمل المرأة معها فضاءها الخاص إلى الفضاء العام وكأنها حبلى بعناصره (كحضور الأطفال مادون سن الصلاة معها ) أو سؤال تحويلها مايفترض أنه فضاء خاص إلى فضاء عام بصيغة نسوية خاصة (كعمليات الخطبة والبيع والشراء). وهل كان ذلك ممكنا لولا تلك العلاقة الحدية الفاصلة بينهما بما يجعل كلا منهما عالما بعيدا عن الآخر.
***
أين أثر تبتل الدعاء في الصلوات من السلوك الاجتماعي؟
يبقى ما تثيره لقطات صورة صلاة التراويح والقيام في مصلى النساء من أسئلة تتعلق بطبيعة السلوك الاجتماعي والتساؤل عن مضامينه الاجتماعية وإطاره الثقافي ومدلوله المعرفي بالإضافة إلى السؤال الحضاري الكامن في الهدف من أداء العبادات مقارنة بالسلوك مثل (رمي الأحذية عند مدخل المصلى وعدم المحافظة على نظافة المكان, الخ...) مما أختمه بسؤال: أين ذلك التبتل والإخلاص في جئير الدعاء والعبرات الحرى أثناء الصلة وعند ختمة القرآن من السلوك الاجتماعي اليومي؟، ولماذا لا يظهر من أثر لذلك الإخلاص في دورة الحياة الاجتماعية العامة؟!. هذا ما سأبقي قراءته لمقال آخر.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com