في الأسئلة الحائرة والأجوبة الباهرة استغرق سؤال واحد حديثي الطويل، وقصرته على براهين الله اللازمة للكافرين، ولكن هناك براهين خاصة بالمؤمنين نَعِمُوا بها فأصبحوا كأنهم يرون ربهم بعيون قلوبهم، وهذه صفة المحسنين يعبدون ربهم كأنهم يرونه.. وهذه البراهين الخاصة التي يُثبِّت الله بها المؤمنين لا أتردَّدُ أبداً أنها من عاجل بشرى أولياء الله الذين قال الله عنهم:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ (1) إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة يونس: 62 - 65)، وكل هذه البراهين محض تجربتي التي تثب بالأرواح(2).
وأول إيمان للمؤمنين خاصةً أنهم يرون وعد ربهم وإيعاده كفلق الصبح عند إدبار الليل، بل في ساعةٍ تَرْمَضُ فيها الفِصال عن مخلوقاتٍ لله يُشكِّك فيها بعض الخلق إجمالاً أو تفصيلاً كالشيطان الذي يتسلط على المسلم لقطع صلاته، ويُذكِّره ما نسي من غير النافع، ولا يُكَدِّر عليه انهماكه في اللغو والطرب والنميمة والضحك، بل يخترع له المضحكات والأكاذيب!!.. أليس هذا برهاناً خاصاً بالمؤمنين عن صدق ربهم في وعده ووعيده وقوله، وأنهم ينعمون بذلك، ويعيشونه تجربته؟.. كذلك إذا تأزَّمَتْ أمورهم في أي مطلب؛ فأحسنوا العبادة وضوءً وأداء صلاة، وأحسنوا امتثال العقيدة؛ فصاروا يعبدون ربهم كأنهم يرونه بعيون قلوبهم (وهذه صفة المحسنين الموقنين) فإن براهين الله تعمر القلب بأبلغ حتى تقطع بمحبة الرب، واستعادة ألطافه في سويداء القلب، وتعلم أن مآربك لا تنقضي عند ربك إلى أن تموت حتى لو لم يبق إلا الإشفاق من النكسة؛ فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة.. وأخي السائل ثنَّى بسؤال آخر لما كان في مرحلة الشك قبل أن يهتدي؛ فقال: ((لماذا خلقنا (أي الله سبحانه)، وماذا سيستفيد.. إذاً (3) للعبادة (أي خلقنا للعبادة)ماذا سيستفيد؟؟!)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا العبث التساؤلي لا يَرِدُ أصلاً على أذهان الموقنين المحسنين الذين يعبدون ربهم عقيدة وشريعة كأنهم يرون ربهم؛ لأن اليقين القطعي تقوَّى عندهم بأمتن البراهين في الأنفس والآفاق والوعي النفسي، ومن يقينهم أن الله سبحانه هو الغني الحميد؛ فلا يَرِدُ عليهم ماذا يستفيد؟!.. وهم يعلمون أن لله العلمَ المطلقَ، وله الحكمة المطلقة فيما يمضيه في تدبيره؛ لأن حكمته أيضاً من علمه المطلق؛ فإذا قال سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (سورة الأنبياء: 23) فليس ذلك أنه يفعل اعتباطاً وتحكُّماً، بل يفعل سبحانه بعلم مسبق، وحكمة مسبقة.. مع وجود الفارق والبون الشاسع بين الخالق سبحانه والمخلوق الذي لا يعلم إلا ظاهراً مما علَّمه ربه، ولا يحيط بعلم ربك وحكمته إلا ما أذن الله بعلمه لتقوية إيمانه، وهو سبحانه يُقوِّي الإيمان بالبراهين، ومشاهدة المعادلة بين المصالح والمفاسد، والوعي الإيماني الذي هو خِصِّيصة يلتذُّ بها المؤمنون، ولكنه سبحانه يمتحن إيمانهم دائماً بما يحجبه من حكمته؛ لأن المطلوب في الدنيا الإيمان بالغيب (الواقع المغيَّب) الذي قامت براهينه، وأما الإيمان بالشهادة فالكفار سريعون إلى ذلك ولا ينفعهم كما في قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} (سورة السجدة: 29)، وهكذا كل من انتقل من الغيب إلى الشهادة كمن غرغر وكان بصره حديداً عند الموت ولم يؤمن إلا هذه اللحظة، وهكذا من آمن عند طلوع الشمس من مغربها، وهكذا كل كافر توعده رسوله بالعذاب بعد ثلاثة أيام فإذا نشأ العذاب وتراسل على الكفار لم ينفع الإيمان حينئذ؛ لأن الله امتحن عباده بالإيمان بالغيب، ومعه براهينه القاطعة.. وأما من الناحية التاريخية الفكرية البحتة فبراهين صدق ربنا وصدق شرعه قوية من الأنفس والآفاق كما مر بيان ذلك، وقد أخبرنا جل وعلا أنه خلقنا للابتلاء؛ ليسْعَدَ المؤمن ويشقى الكافر، وأن ابتلاءه من مقتضى ملكه الشامل الكامل المهيمن؛ لأنه سبحانه فعَّالٌ لما يريد؛ فسؤال المخلوق الضعيف المحدد بكلمة (لماذا خلقنا؟) يساوي: (لماذا تصرَّف في ملكه كما يشاء؟)، فهو تحجير من ضعيف على رب قادر.. ثم ببراهين الإيمان المتينة القوية من الأنفس والآفاق عَلِمْنا نحن، وعلَّمنا هو سبحانه من تدبيره وآياته وتحذيره من طرق الإضلال من الهوى والنفس والشهوات والشبهات والشيطان الذي عرف حقيقته من مارس عبادته لربه بجهاد شاق.. كما علِمنا نحن وعلَّمنا هو سبحانه أنه غني حميد؛ فشبهة (ماذا يستفيد ربنا؟!) غير واردة، وإنما يستفيد البشر الضعفاء من حكمة الرب سبحانه في ابتلائه وهو سيُظْهِرُ ما لم يُظهرْ من بعض الحكمة، وسيعامل عباده في امتثالهم أو معصيتهم بالرحمة والكرم والإحسان والعدل إذا لم يترك الكافر مجالاً لتفقُّد لُطْف ربه نسأل الله العافية.. أَوَلَمْ يقل ربنا سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} (سورة النساء: 87)؛ فتجربة المؤمن الصادقة من صِدْق حديثه جلَّ جلاله.. وههنا أمر فكري ضروري، وهو المطالبة بأن يصرف الباحث النظر مؤقتاً عن (لماذا خلقنا ربنا؟)، و (ماذا يستفيد ربنا؟)، وينظر في واقعنا نحن المخلوقين وحقيقة ربنا سبحانه ولا سيما في قدرته وهيمنته ووحدانيته في التدبير، وأن كل ما سواه خلقه وملكه محكوم بقدره، وهذا مَرَّ في براهين التمانع كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (سورة المؤمنون: 91(ومع استحضار ما يقدر عليه العقل والوجدان من عظمة الله سبحانه يستحضر حال المخلوقات من مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)؟ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(سورة المؤمنون: 78 - 90)فهذه حقائق مصحوبة ببراهينها إذا استحضرها الإنسان خجل الإنسان مِنْ نفسه ومِنْ خَلْقِ الله ثم من ربه أن يقول: (لماذا خلقنا، وما سيستفيد؟!!)؛ فإذا ابتلاه الشيطان بمثل هذا الوسواس وَأَده في مهده بما عنده من علم برهاني يقيني قطعي أسلفت بعضه ومفاتيح بعضه على أن لله الكمالَ المطلقَ النهائيَّ الذي لا يقبل إضافة ولا سلباً، وأن من كماله أنه الغني الحميد، وأن جميع الخلق المحدودين زماناً ومكاناً وعلماً لا يحيطون بعلمه وحكمته سبحانه، وأنه سبحانه فعَّال لما يريد لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون؛ لأن فعله عن حكمة وعلم، وأنه لا أحد يحيط بعلمه وحكمته سبحانه لا نبي مرسل ولا مَلَك مُقَرَّب.. والمؤمن يُنعِم الله عليه ببرد اليقين، وراحة اليقين، ولذة العلم الحاصل من الإيمان.. ولكنه يبقى إلى يوم أن يلقى ربه مُمْتَحَناً من ربه بما يُظهره من صدق إيمانه؛ فالصادق الإيمان سريع الإفضاء بما لديه من يقين؛ فإذا أمره ربه بالنفقة وأن يُقرضَ ربَّه قرضاً حسناً ناجى ربه: (بأنك الغني الحميد، وهو رزقك، وأنت المتفضل، وأنت الغني وكل شيء مفتقر إليك، وجعلت طاعتنا قرضاً؛ لأنك الحميد الشكور).. وإذا سمع مثل قوله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(سورة الرحمن: 60) أشفق، وقال: (الإحسان منك في الأولى؛ فلولا اللهُ ما اهتدينا، ولأنك الحميد الشكور جعلت إحسانك في الثانية جزاء.. وأكثر الناس إحساناً لا يستحق كل هذا النعيم بكل عمله لو لم يكن إحساناً منك ابتداءً، وهو نسبة ضئيلة (مهما عظمت واتسعتْ) من إحسانك الخالد المتنوِّع المتجدِّد.. ولقد جعلتَ فعل المطيع إحساناً والإحسان منك في الأولى والآخرة).. وربنا الملك الحق المبين له الملك على الحقيقة، وهو الممدوح بالجبار المتكبِّر، والتكبُّر في المخلوق خسة ونذالة؛ فما يُقال في تمجيده سبحانه هو الحق والصدق الذي يستقيم به كون الله؛ فبمقتضى مُلكه وكماله جل جلاله سخَّر الملائكة والعجماوات والجمادات تسبح له وتقدسه بالحق؛ فلا أحد له حقيقة الوصف والاسم غيره، وهو ((سُبُّوح قدُّوسٌ)) في ذاته وإن جحد الجاحدون؛ فالفوز للعقلاء إذْ سبَّحوا بحمد ربهم وقدسوه؛ لينالوا الفوز، والبرهان المعجز للجمادات والعجماوات؛ إذ سبحت بقدس ربها، وذلك من علم الغيب الصادق الذي قام برهان صدقه.. وابتلاء الله للثقلين في العبادة مقتضى ملكه، وإظهار علمه وحكمته، ونتيجة ذلك عدله إن عذَّب، وإحسانه إن عفا بعد عدل، وإحسانه الغامر الدائم لمن أطاعه.. وإذا ظهر للسائل وحدانية الله في الملك والهيمنة والقدرة، وأن ربه لطيف غفور ودود يُنجي من ارتمى في أحضان رحمته، وأظهر البراءة من الحول والطَّول والتحجُّج؛ بل {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}(سورة الأنعام: 149)، وعلم أنه في منتهى المحدودية قدرة وعلماً وزماناً ومكاناً: فأي سعادة له في تحجُّج أطفال مهزومين بمثل: ماذا يستفيد ربنا؟!.. أليس له ضمانات لا تُحصى ولا تعد من براهين الله بأنه ليس عنده سبحانه إلا الحق والحكمة والصدق والعدل والإحسان والحلم والعفو وشدة البأس لمن حاربه.. وعجبي الكبير من مخلوق ضعيف يغفل عن حكمة الابتلاء ويصرُّ على دلال الطفولة (ماذا يستفيد ربنا؟) وهو يعلم أن العقلاء والعجماوات والجمادات حالها واحد في عالم الشهادة، وإنما العبرة بصدق الإيمان بالغيب بعد أن نصب عليه البراهين القطعية من الأنفس والآفاق، ولا تزال تتجدد، وحذَّره من أعداءٍ دعاةٍ على أبواب جهنم من الشبهات والشهوات والشياطين وفسقة الإنس والنفس الأمارة بالسوء وسهولة تأصُّل العادة السيئة وصعوبة تكوُّن أحوال العبادة حتى تكونَ حالَ عبادةٍ لا تفقد شيئاً من نية الإخلاص بتمييز المقصود بالعبادة، ولا شيئاً من نية تمييز العمل المقصود، وجعل للتأقلم على العبادة والمعصية آثاراً نفسية مشهودة: إما ضارة وإما نافعة.. وحذَّره من الصدِّ عن ذكر ربِّه والتهرُّب من مسؤوليته، ليحصل له هداية الإيضاح والتوفيق معاً، وطالبه بالبرهان في نفيه وإثباته، وأظهر له البرهان في كل ما طلبه منه، وأخذ حُجَزَه شرعاً لسلامة الدين والنفس والعقل والعرض والمال؛ ليصفو له أخذ الحق من معينه، وأعطاه العبرة من الأغيار، ومن تلك العِبَر ما هو بسبيل مقيم.. ومقتضى ملكه سبحانه وكماله وإن كان غنيّْاً حميداً حبُّه جل جلاله لأن يُشكر ولا يُكفر، ويُذكر ولا يُنسى، ويُعبد ولا يُعصى، ويُسبَّح ويُقدَّس؛ فهل يأتي المخلوق الضعيف المحدود لينازع ربه وهو ليس أهلاً لنزاع أضعف جند مجنَّد من عند ربه يسلطه عليه ولو كان بعوضاً؛ فيقول لربه: (دع ملكك وكمالك ومقتضاهما) بشبهة (ماذا يستفيد ربنا؟)؟؟!.. فمن قال: (لا داعي للابتلاء من ربنا) فأقل ما يقال له: هات براهينك على أنه لا حِكمة لربنا جل جلاله، وهات براهينك على أنك أحطت بحكمة ربنا فلم تجد أن الابتلاء أعظم ما يتميز به الصادقون.. ثم بعد ذلك ارجع إلى القانون العقلي الرياضي الذي أسلفته لك، وألزمتك فيه بالبراهين أن دين الله حقٌّ تفصيلاً وإجمالاً وإن لم تفهم بعض أسراره وهكذا ما تأخر تأويله وما قصرت عنه مداركك قبل أوانه، وأن عندك من البراهين ما يكفيك على وجوب عبادتك ربك بما شرع.. إن البلوى والابتلاء من الله برهان قطعي لمراجعة النفس ابتغاءً للحق كما في قوله تعالى عن تذبذب سلوك اليهود وكفرهم المتكرر: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(سورة الأعراف: 168) إلا أن منه تبكيتاً للكفار فات أوانه كقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(سورة يونس: 30) وعِلْمُ الله سبحانه بحال خلقه حاصل بلا ابتلاء، ولكن الله سبحانه أراد أن يُظهر علمه المسبق إلى علم يعلمه البشر؛ ليظهر لهم عدله وإحسانه، وعلى مثل هذا يحمل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(سورة محمد: 31) ولن أورد إلا قليلاً من ذلك لكثرته وشهرته، ولا سيما أن الجنَّات منازل، والنيران أطباق، وفي الابتلاء تربية للنفوس بالشكر والصبر والاستغفار كما في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}(سورة البقرة: 155 - 156)وفي الابتلاء أخبر ربنا سبحانه أنه يحب المحسنين ولا يحب المعتدين، وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}(سورة الزمر: 7)؛ فكلمة (ماذا يستفيد ربنا؟) محاكمة جهلاء رعناء لأحكم الحاكمين، ولن أخوض في تعليق مشيئة الرب ببقاء النار، ولا بتعليق مشيئة الرب في الجنة بدوام السموات والأرض كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} (سورة هود: 107)؛ فإن الكلام في هذا غير مأمون من الانزلاق في قول بلا علم من الله سبحانه، ولكننا نعلم أن أحقاب النار أضعاف أعمار الكفار ولا يحصيها إلا خالقها، ويستوجبون من الله عذاباً لا يفنى؛ لشدة عداوتهم لربهم، ونعلم مع هذا أن رحمة الله تسبق غضبه، وأن عدله لا يضيع، وأنه فعال لما يريد فيهم وفي غيرهم ولا نعلم إلا ما علمنا ربنا، وأن الله قد لا يُحقِّق كل إيعاده وإن بلغ ضعف أحقاب الحياة لمنتهى رحمته وعدله، وأنه لا يخلف وعده ألبتة؛ فلو أمضى سبحانه إيفاء أهل الجنة حقهم ما دامت السموات والأرض لكان أوفاهم أكثر من حقهم كثيراً، ولكن خلودهم الدائم غير المنقطع حاصل؛ لأنه لا يخلف وعده، واستثناء سبحانه المشيئة بدوام السموات والأرض إظهار لكرمه سبحانه بالمزيد الدائم الذي سيشاؤه لهم؛ لأنه لا يخلف الميعاد، وإشعار لعباده أنهم يستوفون نعيمهم بأكثر مما وعدهم كثيراً لو صح الانتهاء بالتعليق على المشيئة، وقبل إنهاء هذا الموضوع أبين أن كلمة (ماذا يستفيد ربنا؟) ليست برهاناً بإطلاق، وليست اعتراضاً مقبولاً ممن لا يحيط بعلم الله وحكمته.
وجاء في السؤال الثالث: ((العدل: الله عادل حكيم.. هناك إنسان غني وهناك فقير.. متعافى ومريض، بصير وأعمى، قوي وضعيف.. أين العدل من كل ذلك؟!)).
قال أبو عبدالرحمن: العدل ما يمضيه ربنا بعد ذلك مما نجهله، وهو عدل وثواب وإحسان، وكل ما طرحه عليَّ السائل حال شكه هو الركائز الخاملة للفلسفة المعاصرة التي مزَّقتها كثرة المصطلحات، وجعلت دلالتها هذه الركائز التي جعلتها الصهيونية العالمية وجمهرتها ذوو فكر صهيوني معتمدٍ التضليلَ من غير اليهود نقاشاً من جوانب تحيط بانفلاتها غير المنطقي، فالعدل شرعاً وحقوقياً ومنطقياً وفلسفياً حال إنصاف تجاه حكم في شيء، أو جزاء عمل.. والفقير يحكم ربه فيه بأنه ابتلاه بالفقر، وفضَّل عليه في الدنيا غيره بالرزق، والمريض والأعمى والضعيف.. إلخ في هذا السمط؛ فأول العدل حكم الله بابتلائه، ثم يأتي الحكم في الجزاء؛ فالغِنَى أداة شكر وذكر وبذل ورضاء فيما يرضي ربنا.. والفقر أداة صبر وحمد لله على كل حال، ورضاء عن الله وثقة بما عنده من ثواب، وأداء للعبادة بمقدار ما يقدر عليه، فإن أثاب الغنيَّ في الآخرة بالإحسان في طغيانه وكفره وشحه وبذل المال في غير حقه: كان كل ذلك غير عدل تنزَّه ربنا عنه سبحانه بشرعه وخبره.. وأما قضاء الله فإثابةُ الغنيِّ الشاكر المنفق المال في حله، وإثابةُ الفقير الصابر الشاكر لربه على كل حال.. وفوق الثواب والجزاء حكمة الله إن أدرك السائل المسكين منها شيئاً لم يحط بها؛ فكيف يقوم نظام الكون إذا كان الناس كلهم فقراء أو كلهم أغنياء؟.. وأين موارد الحقوق ومصادرها التي شرعها الله إذا زالت الفوارق؟.. والسائل بعد ذلك لا يعاني حيرة يسأل من أجلها، وإنما يروم تدبيراً للكون ليس من قَدَرِه الضعيف وهو أقل من ذرة في كون الله، ويروم حكمةً بالغة يبلغ بها إلى القدر المحيط الذي ليس له بل هو لمن له حق الملك والخلق والتدبير والتعليم، وليس إلا الله سبحانه الخالق القدير الغني المهيمن العليم الخبير.. وهذه التساؤلات إرث من إبليس.. إلى باخنر.. إلى القصيمي.. ومَنْ عَلِمَ وحدانيةَ الله في الملك والخلق والتدبير والقدرة والعلم والحكمة، وعلم حقيقة نفسه منذ وحشة وجهل المهد إلى ضياع القُوى قُرْب اللحد أشفق من هذا الطرح الصبياني الذي لا يملك حسن ترتيبه، ولا يحيط بعلم وحكمة من له الأمر.. مع ما في ذلك من الخلط بين عدل الله وإحسانه وتفريقه بين أحوال خلقه مع بقاء حكمة العدل والإحسان.
ومن أسئلة الرجل حال شكه أسهلُ الأمورِ حلّاً وفهماً، وأشنعها تهويلاً، وذلك مسألة القدر.. يقول: ((القدر: الله كتب علينا كل شيء وقَدَّره.. كيف يكتب علينا ثم يحاسبنا ويعذبنا.. الله قدر أن طونيو نصراني، وخالداً مسلم، وعُزَيْراً يهودي، وذاك بوذي، وآخر هندوسي.. إلخ.. ما ذنبهم إذا كان الله قدر عليهم هذا الشيء وما ذنبهم إذا كانوا ولدوا في هذه البيئات؛ فلو وُلِد طونيو في السعودية لكان مسلماً؛ فما ذنبه؟.. {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}(سورة الحجر: 60).
قال أبو عبدالرحمن: {امْرَأَتَهُ} من بلدياته؛ فكلام السائل غير متناسب، ثم إن هذا خلط في الفكر، وتباعد في المنطق، واحتضان لمغالطات سيِّئة لا حصر لها، وأبدأ معه بالتنزل في الاستدلال؛ فأقول: هب أن الأمر كما ذكرتَ تعالى الله عن ذلك من استباحتك تجوير الله؛ فهذا لا يُلغي البراهين على وحدانية الله في القدرة والملك والخلق والتدبير، ولا يُلغي وضوح شرعه؛ فَقَرْناك والجبل!!.. وإلا ألا تلتمس نصوص البراءة من الحول والطول، والفرار إلى الله واللجوء إليه، والاستعاذة مما يجلب مقته وغضبه وسخطه وعقابه ومكره؟.. ألا تقول ما علمك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).. هذا لو كان الأمر كما ذكرتَ، فلا حيلة للعاجز إلا أن يلوذ بالقادر سبحانه.. ثم قام البرهان من التجربة العلمية أن الله يجير من استجار به، ويهدي من استهداه.. وقام ما أسلفته من براهين وحدانية الله في القدرة التي هي السبب الكافي، وفي الكمال، وفي القصد والتدبير: أن ما صدر عنه سبحانه من شرع صحَّ دلالةً وثبوتاً فهو حق وصدق، والشرع مملوء بأسباب السلامة من غضب الله ومقته.. وبعد هذا التنزُّل في الاستدلال أعود إلى مجرى الحق ومآله من غير تسامح؛ ببيان أمور:
الأمر الأول: لا خلاف ألبتة أن الله كتب علينا كل شيء وقدَّره؛ فهذا حقٌّ محض، ولكن الباطل المحض أن يكون ما كتبه الله جبراً وإلجاء وإكراهاً، بل ما قدَّره الله على أربعة أقسام:
أ- تقدير إلجاء وجبر وإكراه يشمل الكافر والمؤمن كمقدار الأجل والولادة، وحتمية الولادة والموت، ووضعية الحياة الدنيوية من غنى وفقر، وصحة ومرض، ووجاهة وخمول.. ولطف الله ورحمته وإحسانه وعدله فيما يواجه به الإنسان هذه الوضعية بالحرية التي منحه إياها، وبالقدرة التي منحه إياها من سلوك يدور بين الرضا والصبر، والشكر قولاً وفعلاً، والاستغفار من قنوط أو غرور.
ب- تقدير إلجاء وجبر لمن رضي الله لهم الهداية ابتداء واصطفاء من غير عمل سابق كاصطفائه لرسله عليهم الصلاة والسلام، وعصمتهم، وضمان أعلى المنازل لهم في الجنة؛ فهذا إحسان من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وهو أعلم بأحوال عباده الذين بوَّأهم هذه المنزلة.
ج- تقدير إلجاء وجبر وإكراه جزاء لا ابتداء من الرين والغشاوة والختم والطبع والإضلال؛ فكل هذا جزاء عادل لمن حادَّ الله وحاربه بعد أن قامت عليه الحجة، وانقطع عليه سبيل الاعتراض بحق؛ فقد يأخذه أخذ عزيز مقتدر ويُعجِّل عقوبته دنياً وآخرة، وقد يبقيه في الدنيا بزيادة أجل؛ ليزداد إثماً لشدة محاربته لربه.
د- تقدير ليس فيه شائبة من الإلجاء والجبر والإكراه، وهذا في كل ما أمر الله به بشرعه أو نهى عنه؛ فمن فقد القدرة بالعجز سقط عنه التكليف في تلك الحال، ومن فقد حرية الاختيار بغيبوبة أو سلبِ عقلٍ سقط عنه التكليف، ومن ملك قدرة الفعل أو الترك، ومن ملك حرية الاختيار في الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة جماعة في وقتها، وحرية الاختيار في الذهاب إلى البار لمعاقرة الخمر فهو محاسب بما آثر اختياره بالقدرة التي منحه الله إياها.
ومع هذا نؤمن إيماناً قاطعاً أن أي إنسان لا يقدر أن يؤمن أو يهتدي إلا بإذن الله ولا يتعارض هذا مع محاسبة الله له وفق القدرة وحرية الاختيار، وبيان ذلك بتقرير المسألة أولاً من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (سورة يونس: 100)، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(سورة يونس: 99) وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(سورة الأنعام: 35) وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (سورة الأنعام: 107)، وقوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}(سورة الأنعام: 80)، وقوله تعالى عن شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (سورة الأعراف: 89) ومع أنه لا إيمان ألبتة إلا بإذن الله ومشيئته فلا إكراه على الكفر والضلال ابتداء، بل الحجة قائمة وفق ملك الإنسان مقدار ما يملك من حرية وقدرة، وقد بيَّن الله قيام الحجة بمثل قوله تعالى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (سورة الأنعام: 149)، وأكذب الله زعم من جعل اشتراط إذن الله بالهداية ومشيئته لها حجة له على الإكراه بأنه لا علم لهم فيما يزعمون؛ فقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}(سورة الزخرف: 20) ومع هذا جعل للعباد مشيئة مع أن كل مشيئة راجعة إلى مشيئته سبحانه فقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(سورة التكوير:(27-29)
الأمر الثاني: بعد هذا البيان من صريح النص الشرعي أن لا هداية إلا بإذن الله حتماً، وأن للإنسان مشيئة معلقة بمشيئة الله: فلا بد من بيان فكري يَنِذُّ عن بعض العقول غير الرياضية؛ فقد أظهر الله سبحانه أن لا حجة على أحد إلا وَفْقَ ما يملك من قدرة وحرية وإن كانت المشيئة بإذن الله وحده.. وبيان ذلك أن الله سبحانه لما جعل الهداية والإيمان بمشيئته وإذنه لم يخبر أنه حجب الإذن والمشيئة عمن أرادهما جل وعز وتبارك وتعالى أن يخلف وعده بتحريمه الظلم على نفسه، بل جعل سبحانه إذنه ومشيئته وعداً حقاً لمريد ذلك من عباده إذا سلك بحريته وقدرته اللتين منحه الله إياهما الأسبابَ التي تُبلِّغه إذن ربه ومشيئته؛ فيمنحه ربه مشيئة الهداية.. وإذا أهمل الكافر هذه الأسباب فهو لم يهمل أمثالها لأمور دنياه؛ إذْ كان يعلم أنه لا كسب إلا بكدح، ولا سلامة إلا بوقاية، ولا حَبَّ إلا بزرع، ولا ماء إلا بحفر، ولا ولد إلا بنكاح، ولا زوال لعوارض إلا بتعاطي أسباب مجرَّبة؛ فاستقامةُ حياته على ذلك.. وهداية الله وإذنه بالإيمان له أسباب صادقة محقَّقة جعلها الله بقدرة الإنسان وحريته؛ وذلك بالإلحاف في الدعاء بأن يهديه الله صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتلك هي هداية الإعانة والتوفيق ويلي ذلك الإلحاف بالدعاء ليجمع له هداية البيان والإيضاح معاً بأن يريه الحق حقّاً (فهذه هداية إيضاح)، وأن يرزقه اتباعه (فهذه هداية إعانة).. واللجوء إلى الدعاء جاء مؤكداً بثلاثة أحوال:
أولها: أن الله يحب عبده اللحوح في دعائه، وبذلك صحَّ الخبر.
وثانيها: الأمر بالدعاء أمر إيجاب، والوعد بالإجابة بشرط ما يحصل به إجابة الدعاء وهو من الأسباب التي جعلها الله بقدرة العبد وحريته كعدم التجاوز، وتخيُّر أوقات وأحوال الإجابة، واجتناب أكل المال الحرام، والانكسار بين يدي الله.. إلخ.. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (سورة البقرة: 186)، وقال تعالى آمراً أمر إيجاب بدليل ما يأتي من توعده من ترك الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (سورة غافر: 60) وسمْعه سبحانه وقربه ضمان لإجابة الدعاء كما في قوله سبحانه عن زكريا عليه السلام: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}(سورة آل عمران: 38)، وبيَّن لهم ربهم في القرآن الكريم بعض شروط الدعاء كقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(سورة الأعراف: 55).
وثالثها: توعُّدُ الله لمن ترك دعاءه كما في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(سورة غافر: 60)، فالعبادة هنا بمعنى الدعاء، ومدح الله عابدي ربهم بالدعاء كما في قوله تعالى عن آل زكريا عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (سورة الأنبياء: 90) والفاسق إذا أخلص الدعاء والتضرع بطلب التوبة والعصمة استجاب الله له، وهكذا الكافر لو فعل، ولكنه لن يفعل؛ لأنه كابر وعاند وجحد؛ فلم يعد في عقيدته إيمان برب يأذن بالإيمان والهداية، وإنما يرغم الله أنفه فيدعو ربه لكشف ضر أصابه، ثم يرتد على عقبيه بعد كشف الله ضره؛ إذن الكافر محروم من الإذن بالإيمان ومشيئة الله هدايته؛ لأنه اختار بما منحه الله من حرية وقدرة جَحْدَ البراهين والعناد والمكابرة؛ ولهذا قال سبحانه بعد نفي الإيمان إلا بإذنه كما مرَّ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (سورة يونس: 100) ؛ لأنهم فَرَّطوا في البراهين اللائحة في الأنفس والآفاق.
والأمر الثالث: من الأشياء التي كتبها ربنا وقدرها ما هو سبق علم بما نفعله وفق حريتنا واختيارنا، وليس هذا إلجاءً ولا جبراً ولا إكراهاً؛ فليس علم المخلوق ولله المثل الأعلى عن بواعث يراها بما سيفعله ولده إكراهاً لولده على الفعل، ولكنه سبق علم بما يفعله عن حريته وقدرته، ولهذا فليس مثل قوله تعالى فيما يرويه عنه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ((هؤلاء للنار ولا أبالي)) اعتباطاً، بل هو علمُ علاّمِ الغيوب بأن أهل تلك القبضة ممن سيشقون بحريتهم وقدرتهم في اختيار الكفر وفعله.
والأمر الرابع: أن لدين ربنا نظاماً وفق نُظم الدلالة في الفهم؛ فمجمله مردود إلى مفسَّره، ومتشابهه مفسر بمحكمه.. وهكذا، ولا نقول على ربنا قولاً محتملاً في مسائل مفصلة؛ فإذا ورد مثل حديث ((لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه لكان غير ظالم لهم)) فلا نقبل الفهم الخاطئ من أي إمام نحبه لعلمه وفضله وورعه وإمامته، بل نحن مقيدون بالبرهان وبما استقرت عليه دلالة الشرع؛ فالظلم الذي حرَّمه ربنا على نفسه هو تعذيب المكلفين يوم القيامة بلا ذنب، ولو عذب ربنا أهل سمواته وأرضه يوم القيامة بلا ذنب منهم لكان هذا هو الظلم الذي حرَّمه على نفسه سبحانه وتعالى عن ذلك؛ فصار المعنى (لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه لكان غير ظالم لهم؛ لأنه لن يعذبهم إلا على ذنب اقترفوه)، فواجب التثبت من صحة ورود النص عن الله سبحانه نقلاً ودلالة، ولا بد من فهمه على المستقرِّ من معاني الشرع؛ فتحريم الله الظلم على نفسه يمنع من تعذيبهم بلا ذنب، ويمنع من تحريف معنى الظلم؛ فيكون العذاب بلا ذنب في موضع ظلماً، وفي موضع غير ظلم.. هذا غير صحيح، وتناقض.
والأمر الخامس: تمخَّض مما مر أن الذي قدَّره ربنا علينا وسيحاسبنا عليه ما علم أننا نفعله بحريتنا وقدرتنا.
والأمر السادس: ليس من الشرط أن يكون خالدٌ مسلماً وإن ولد في السعودية، فقد يرتد، وقد ينشأ غير مسلم.
والأمر السابع: السائل يجعل النشأة وتربية الوالدين عذراً، والله لم يجعل ذلك عنده عذراً؛ فأين نجد البرهان؟؟.. لا برهان إلا حيث يوجد نداء العقل؛ لأنه الذي يصاحب العِلم جديده وحويله تصوُّراً وفهماً وتذكُّراً وتفريقاً ولمْحَ وشيجةٍ وحكماً، وقد بينت كثيراً أن العقل حجة قائمة عند الله محاسب عليها الإنسان، وليس هذا على مذهب المعتزلة؛ لأن العقل بوسائله من غير شرع مسموع لا يعلم تفاصيل الشرع؛ وإنما يعلم أن التاريخ طويل الأمد وأهواء البشر يداخلها التغيير، وأن لله إيضاحاً ينفي ضلالاً وينفيه محصلات العلم التي وعاها العقل من خطإ في حساب، أو تهويل في طبيعة والطبيعة لا تعطيك أكثر مما فيها، أو فحشٍ لا يليق بمشاعل الحق والخير والجمال.. إلخ من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أو نقيصة لا تليق بإله الكون سبحانه؛ فعقل الإنسان محاسب عند الله، وطونيو مسؤول عقله عن البحث عن دين يرفع المحال في جمع ثلاثة آلهة على أنهم إلهٌ واحدٌ، ويرفع النقص عن ربه، والبذاءة على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الله خلقه على مسؤولية يُحاسب بها ليحقق أمرين:
أولهما: الكمال المطلق لإله الكون سبحانه إجمالاً، وأخْذُ براهين الحق من التواتر والمأثور، وهذا كافٍ في الإيمان المجمل، منقذٌ من النار، مُوَصِّلٌ إلى الجنة لو لم يحصل على الدين الصحيح تفصيلاً كما هي حال الحنفاء في الجاهلية الذين يُسمِّيهم الكفار صابئين وهم غير الصابئة عبدة الكواكب.
وثانيهما: البحث عن الدين الصحيح تفصيلاً؛ فإن مات ولم يجده فهو معذور عند الله؛ لأن الله لا يحاسب عبده إلا ببينة قائمة.. هذا عدل الله وإحسانه سواء أكان المعنيُّ خالداً أم طونيو.
والأمر الثامن: طونيو لا يُحْكم بأنه يُعذر أو لا يعذر بأن الله خلقه هكذا (طونيو النصراني)؛ فالنصرانية دين من عند الله، وعليه التماس الدين الذي لا تنفيه براهين الله في الأنفس والآفاق على الإيمان بالرب وغيره.
قال أبو عبدالرحمن: ولم أدخل في هذه المخاطبة إلى صميم الفكر؛ لأنني أريد تقريباً يشهد له الفكر ولكن السائل حفظه الله متمسك بالزخم الفكري؛ لهذا ألِجُهُ له كارهاً براءةً للذمَّة؛ وأول ما أذكره أن المعرفة البشرية للعقل الفردي وللعقل الإنساني المشترك على مدار التاريخ حقيقة لا يكابر فيها أحد، وكثير من حقائق العلم الحديث (لا نظرياته والافتراء عليه) تزيد في هذا العلم.. ولكن المقرر عند جميع المفكرين مؤمنهم وملحدهم أن للمعرفة البشرية مهما سمقت حدوداً طبيعية حتمية لا دخل لأي قوةٍ خارجية فيها؛ فهو أولاً علمٌ نسبي بمقدار ما عند العَالِمِ النِّحرير من مدى معرفةٍ تقصر عن البواطن والصيرورات، والإحاطة بكل شيء، والإحاطة بشيء ما من كل وجه، ومن تلكَ الظروف الحتمية أن العقل يتربى ويدرس منذ التمييز إلى اشتداد القوى، ويعتريه الغفلة والنسيان والخلط، ويصحح معارفه بمعارف العقل الإنساني المشترك، ويتراجع أحياناً، وينتقل من ظن إلى رجحان إلى يقين، وقلَّما تراه مُشَوَّشاً حصل له عكس ذلك إلا أن يصاب بآلةٍ مرضية، أو أن يُرَدَّ إلى أرذل العمر؛ فلا بد حينئذٍ من العناية بنظرية المعرفة البشرية عن فحصٍ عبقري؛ وقد عُنِيتُ بذلك في الأجزاء الأولى من كتابي (الإيمان العلمي).. ونظرية المعرفة هي خميرة علم القرون، وهي محتكم أهل العلم والفكر، وهي الشرط لمصاحبة التجربة من الافتراض إلى النتيجة البرهانية، وهي الفلسفة الخاصة الحقيقية التي يعود إليها وإلى آدابها كل فلسفةٍ خاصة في الطبيعة أو الإلهيات أوالغيبيات، أو حقول المعارف البشرية، وبناؤها العتيد إما أن يطلق العقل بيقين أو رجحان، وإما أن يجعل له فرصة التأمل مستقبلاً عند تكافؤ الأدلة، وإما أن يمنحه اليقين على النفي لوجود المرجوحية.. ولا يروعني ما في أسئلة الأخ الفاضل؛ فكلها على المدى بحول الله وقوته ستنتهي إلى أرضية فكرية صلبة.. ولو سلب الله طونيو أو خالداً ما هما عليه من المعرفة البشرية من حقائق، ولو كان الدين تلقيناً مسبقاً لم تصحبه براهينه: لكانا معذورين، ولكن الله لم يترك الأمرَ فُرُطاً.. وفي المعرفة البشرية الصلبة خصوصية علمٍ عن الواقع المغيب الذي قامت براهين وجوده بالوصف والآثار، واستحال تقديره وتكييفه؛ لأنه ليس من عَالَمِ المشاهدة؛ فالإيمان به إذا صحَّ برهانه ضمانةُ البرهان الصحيح الذي أوجب الإيمان به، وهو ينفي لماذا أو ماذا يستفيد؟؛ لأنه عاجز عن الإحاطة بعلم وحكمة الواقع المغيَّب؛ ففي هذا الحديث العاجل تأنيس وفي الحديث القادم إن شاء الله ضرورات فكرية، وحيوية هذا الشاب أقدر على استيعابها بشرط التجرُّد من الهوى، والإخلاص لطلب الحقيقة، والبعد عن الهوى وحب التلميع، ومعرفة محدودية العقل البشري المخلوق، وأن له مغذِّياتٍ من الغيب تهدي قوانينه الفكرية، وأنه لا بد من اللمَّاحية ودقة التمييز والتفريق؛ فإلى لقاء، والله المستعان.
* * * * *
(1) الوقف هنا لازم؛ لأنه ليس بعد القول مقول.
(2) سيأتي عنها حديث مطول إن شاء الله في كتابي (عبدربه في المعترك).
(3) الصواب: (إذن)، لأن النون أصلية في مثل (عن).
كتبه لكم:أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -