لقد كان قدر اللغة العربية أن تكون لساناً عربياً مبيناً، وكان قدرها أن تكون لغة الإسلام الخالدة، وقدرها أن تكون لسان أعظم كتاب أنزل على نبي من الأنبياء، وقدرها أن تكون لسان خاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وقدرها أن يكون العلم بالقرآن الكريم والعلم بالسنة الشريفة لا يتم إلا بالعلم باللغة العربية، وتعلم القرآن والسنة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعلى هذا فقدر اللغة العربية أن يكون تعلمها وتعليمها واجباً في منظور علماء المسلمين. وكان قدر اللغة العربية أن تكون منزلتها سامية وأن تكون لغة خالدة بالتبع لأنها لغة القرآن والقرآن محفوظ بحفظ الله له {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} لقد تفهم المسلمون منزلة اللغة العربية علماؤهم وولاة أمرهم وعامتهم ولهذا كانت اللغة العربية محل العناية ومحل الرعاية من قبل المسلمين بالإجماع. وحينما اتسعت رقعة دولة الإسلام بعد أن استضاءت بنور الإسلام وهدايته أمم وشعوب عربية وغير عربية ظهر على بعض ألسن أفراد من المسلمين لحن فخشي ولاة أمر المسلمين وعلماؤهم أن يستشري هذا الخلل اللغوي وأن يتعدى ضرره إلى الكتاب العزيز وإلى السنة المطهرة، من أجل ذلك وقف الجميع وقفة تاريخية مشرفة ونبيلة ومسؤولة في سبيل حماية اللسان الذي نزل به القرآن ونطقت به السنة وبمجهود محمود استباقي مبدع وضع علماء المسلمين علامات الإعراب فرمزوا بعلامة سموها اصطلاحاً الفتحة للدلالة على اللفظ المنصوب وبعلامة الضمة للمرفوع وبعلامة الكسرة للمخفوض وبعلامة السكون للمجزوم الخ، وقد تم ذلك دون تردد وفي الوقت المناسب، وبهذه المبادرة الذكية الناجمة حصل الاطمئنان على حسن تلاوة القرآن وصحة التلفظ به، وحصل مثل ذلك للسنة المطهرة، وفي خطوة عظيمة لاحقة تفرغ المئات من العلماء ووقفوا أعمارهم على خدمة اللغة العربية وسبر غور اللسان العربي وكشف أسراره. متوسمين أن هذا اللسان الذي اختاره الله ليكون اللسان الذي نزل به القرآن ربما يكون له من المزايا والتفوق ما ليس لغيره، وبعد البحث والتدقيق ظهر للعلماء أن اللغة العربية لغة ناضجة وتحمل في طياتها أسراراً وقوانين مثيرة وتختزن علوماً جمة ملأت الأسفار وعمرت بتدريسها الحلقات وأثرت المكتبات وكان في مقدمة علوم اللغة العربية علم النحو وعلم الصرف ومعاجم متن اللغة وشرح معانيها وكشفوا عن علم فقه اللغة وعلم البلاغة، وعلم الأصوات، وعلم مخارج الحروف إلى غير ذلك خدمة للغة العربية وخدمة للعلوم الإسلامية وخدمة للفكر العربي وللتراث العربي والإسلامي. هذه نماذج من جهود علماء المسلمين لم يقصد منها الحصر ولم يقصد منها التفعيل وإنما قصد منها ضرب المثل فقط.
وبعد أن قطع العلماء مراحل في تأصيل علوم اللسان العربي وكشف ما ظهر لهم من أسراره وقوانينه وقواعده تبين لهم بوضوح أن اللغة العربية لغة واسعة الأفق غزيرة المادة قادرة على استيعاب كافة العلوم مؤهلة لتحمل مسؤولية إشباع حاجة الإنسان أياً كان تخصصه وأياً كان اهتمامه عالماً ومتعلماً من هذا المنطلق شرع العلماء وبدعم أدبي ومادي سخي من ولاة الأمر في إثراء اللغة العربية بالعلوم الحضارية البحتة مثل الطب والهندسة وعلوم الفلك وعلوم البحار وعلوم الأرض وغيرها التي كانت موجودة لدى الأمم آنذاك والتي تطورت وازدهرت على أيدي علماء المسلمين وهي العلوم التي يطلق عليها علماء العصر الحاضر العلوم البحتة التطبيقية والطبيعية وعلوم التقنية. وقد أثبت التاريخ أن التمدن الإسلامي قد ارتقى إلى القمة وكان له سبق وله ريادة طيلة قرون معدودة وكان إثراء اللغة العربية وإثراء التراث العربي والإسلامي يتم بعدة وسائل في مقدمتها الترجمة والتعريب والنقل للعلوم النافعة المعترف بفائدتها وحاجة الأمة إليها وما يعنينا هنا من تلك العلوم هو العلم الذي لا يتعارض مع العقيدة الصحيحة ولا يتعارض مع قواعد الشريعة وأحكامها ولا مع العادات الإسلامية والعربية الكريمة والأعراف المحمودة والأخلاق المستقيمة. ولقد كان للمترجمين طريقتان كما يقول صلاح الدين الصفدي:
الطريقة الأولى: أن ينظر المترجم إلى كلمة مفردة من الكلمات من اللغة التي ينقل عنها وما تدل عليه من المعنى فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى، كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه وهذه الطريقة يقول عنها الباحثون إنها رديئة.
الطريقة الثانية: هي أن يأتي المترجم إلى الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها في المعنى سواء أساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذه الطريقة يقول عنها الباحثون إنها أجود ويمكن الأخذ بها في العصر الحاضر بنجاح، بدليل أن المترجمين الذين أخذوا بهذه الطريقة لم تحتج كتبهم في ذلك العصر إلى تهذيب إذا كانوا ممن تتوافر فيهم الشروط المهنية للترجمة ومن أهمها إجادة اللغة التي ينقل عنها وما تدل عليه من المعنى، والتمكن من اللغة العربية وحسن تصرفه في مناهجها ومما ساعد المترجمين في أداء مهمتهم سعة أفق اللغة العربية وقدرتها على استيعاب المستجدات ولذلك تجلى في عمل المترجمين في دولة الإسلام سلاسة التوفيق بين ما ينقلون عنه من لغات وبين اللغة العربية.
لقد اتضح مما سبق أن علماء المسلمين وولاة الأمر في الدولة الإسلامية قد خدموا اللغة العربية من كل وجه في المبنى وفي المعنى، في اللفظ وفي الرسم، واستكملوا خارطتها وعلومها ونظمها وقواعدها الخ.
ومن جهة ثانية أثروا اللغة العربية بترجمة وتعريب ونقل ما لدى الأمم الأخرى من علوم التمدن وبخاصة العلوم النافعة كما أسلفنا مما أثبته التاريخ واستقرأه الباحثون وكان للغة العربية حضوؤ مشهود.
وإذا نظرنا إلى حال اللغة العربية في عصورها المتأخرة نجد أن أبرز ما حصلت عليه اللغة العربية هو إحياء ما سبق أن تركه سلف الأمة من علوم اللغة وتهذيب ما كان منها في حاجة إلى تهذيب حسبما حصل في قاعات وفصول الدراسة في كليات اللغة العربية وفي مناهج التعليم العام والعالي وفي الرسائل الخاصة بالدرجات العلمية وفي مجامع اللغة العربية إلى آخره وهذا في جملته امتداد لجانب واحد مما فعله علماء المسلمين في الدولة الإسلامية إزاء اللغة العربية في عصورها الزاهرة.
أما الجانب الآخر وهو حضور اللغة العربية وإثراؤها فالأمر فيه يختلف اختلافاً صارخاً عما نهجه سلف الأمة لقد أقصيت اللغة العربية وغيبت تماماً عن الميدان فيما يتعلق بالعلوم البحتة والتطبيقية والطبيعية وعلوم التقنية إجمالاً وتفصيلاً في طول البلاد العربية وعرضها وحرمت اللغة العربية من الإثراء في هذه العلوم وحرم التراث العربي أيضاً من الإثراء في هذه العلوم وحرمت المكتبة العربية من الإثراء وحرم الفكر العربي من الانطلاق بسجيته وبمواهبه وذكائه ونبوغه وإبداعه فيما يختص بالعلوم البحتة والتطبيقية وعلوم التقنية وبشمول تام لعلوم الفيزياء والكيمياء والأحياء والعلوم الرياضية المتقدمة وعلوم الحاسب وعلوم الطب وعلوم الهندسة الخ العلوم البحتة والتطبيقية والطبيعية وعلوم التقنية كلها أبعدت عنها اللغة العربية كما سلف ويقول الباحثون إن هذا الإقصاء والتغييب وتجفيف مصادر الإثراء قد مضى عليه ما يزيد على مائة وخمسين عاماً باعتبار تاريخ افتتاح أول جامعة في الوطن العربي تعلم العلوم البحتة بجميع فروعها ويقولون إن النخب الثقافية في العالم العربي من الرعيل الأول الذين عاصروا فجر الاستقلال عن الإدارة الأجنبية المباشرة كان بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً فيما يختص بإقصاء اللغة العربية وحرمانها من الإثراء في العلوم المشار إليها ولكنهم ربما نظروا إلى الموضوع على أساس أنه وقتي واستثنائي وأن الزمن كفيل بإعطاء اللغة العربية حقها القانوني والطبيعي لأن دساتير جميع الدول العربية ونظم الحكم التي صدرت بعد الاستقلال نصت بصراحة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية. وهذا يعني من حيث المبدأ حضور اللغة العربية واحترامها ووجوب إثرائها تبعاً لمتطلبات سيادة الدولة واستقلالها. وقد مضى الرعيل الأول من النخب العربية ولم يفعل شيئاً حيال إنقاذ اللغة العربية ولم يتقدم خطوة واحدة في اتجاه إثرائها وتوالت السنوات على خلفائهم من النخب الثقافية وأمضوا عقوداً زمنية ليست قصيرة ولم يحركوا ساكناً إلى يومنا هذا، بل على العكس لقد نسوا أن إقصاء اللغة العربية كان مؤقتاً في بادئ الأمر، وأن عدم إثرائها كان مؤقتاً هو الآخر، وأن الحالة كانت استثنائية. لقد نسوا ذلك كله بدليل استمرار النخب الثقافية في الوطن العربي في تفعيل إقصاء اللغة العربية متجاوزين الدساتير ونظم الحكم وركزوا على توطين اللغات الأجنبية غير الدستورية وتعميم تعلمها والإصرار على أن اكتساب العلوم البحتة والتطبيقية والطبيعية وعلوم التقنية عموماً يكون علناً وبدون مواربة في ظل غياب تام للغة الدستورية (اللغة العربية) وليس ذلك تجاوزاً للدساتير ونظم الحكم فحسب بل تجاوزاً لإجماع الأمم قاطبة، فدول العالم بدون استثناء تحترم أشد الاحترام لغاتها الدستورية حتى أن من ضرب بالسلاح الذري في الحرب العالمية ومن حلت به الهزيمة من الدول فقد قبل شروط المنتصر إلا ما يخص لغته الدستورية، فقد كان الجواب القاطع نقبل الفناء ولا نقبل أن يمس لساننا ولغتنا سوء أو ينتقص من حضورها أو إثرائها وسيادتها، إذا كان الأمر كذلك. وأن الأمة العربية برمتها تمثل حالة استثنائية بين أمم العالم فلابد من وقفة تأمل وإعطاء هذا الموضوع ما يستحقه من الدراسة والتمحيص مع الأخذ في الاعتبار أن للأمة العربية الإسلامية تجربة تاريخية في عهد ازدهار وعظمة دولة الإسلام فيما يتعلق بحضور اللغة العربية وإثرائها ولأمم العالم تجارب مشهودة ومتيقنة فيما يخص حضور لغاتهم الدستورية وإثرائها. وللأمة العربية تجربتها في العصر الحاضر فيما يخص حضور اللغة العربية وإثرائها وهي اللغة الدستورية للأمة العربية وتتمثل هذه التجربة في إقصاء اللغة الدستورية وعدم إثرائها في العلوم البحتة!
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ربحت الأمة العربية أم خسرت وقد مضى على هذه التجربة المرة ما يزيد على مائة وخمسين سنة؟ وإذا لم تربح الأمة العربية من تجربة الإقصاء والإفقار للغة الدستورية فهل مصلحتها في تصحيح الوضع أم في مواصلة الإقصاء والإبعاد للغة القانونية والإبعاد تبعاً لذلك للتراث والإبعاد للمكتبة العربية والإبعاد للفكر العربي النقي؟ لا يشك عاقل بأن الإصرار على أمر لا مصداقية له في الواقع ولا جدوى هو ملفت للنظر بكل المقاييس.