لا مناص من إسماع صوتك لمن يشترك معك في الدين واللغة والثقافة، ويُساوره ذاتُ الهم الذي يُساورك، وخفوت الصوت لأيِّ عارضٍ يعني الانطواء على الذات، والانكفاء إلى الداخل، مما يفوت الفرص المتاحة...
واشْتِدادُ المضاضةِ حين يكون الأدبُ وذووه قادرين بإمكانياتهم ووسائلهم على تجسيد الفجوات وتكافؤ الفرص، ثم لا يكونون حاضري المشاهد بقدر حضور من دونهم عدداً وعدة وعتاداً، وتلك السجية من نقصِ القادرين على التمام، وهو عيب لا يُحْتمل وتقصير لا يُطاق، والأدب العربي في المملكة العربية السعودية لم يكن حاضراً في مشاهد الأدب العربي بالقدر الكافي ولا المتكافئ، لا في أرضه التي أنتجته ولا في سائر المشاهد العربية، وتلك قضية بُحَّتِ الأصوات من ترديدها، وحَفِيت أقدامُ المسكونين بالهم من البحث عن مشاجب للخلوص من تأنيب الضمائر، ولمَّا يَعُد الصوتُ والركضُ مجديين إن لم يكن هناك تحرُّفٌ لمحاولات مؤسساتية جادة، تتمثل بالوزارات والهيئات ودور النشر والملحقيات الثقافية، أو تحيز لفئات واعية ومدركة للمشكلة ولوسائل الحلِّ الجذري الذي يقطع دابر الحور بعد الكور، لقد كثر التَّماس مع كل الأطراف، حتى قلَّ الإحساس، والأجدى لأمةٍ تملك كل المقومات والإمكانيات أن تبحث الأسباب دون البحث عن المتّسبِّبين، فالزمن المتسارع في عَدْوه لا يرقب المترددين ولا المتنازعين، والباحث عن الأدب السعودي في منابته وبين ذويه قد لا يجد مراده بسهولة فضلاً عن أن يظفر بشيء منه في آفاق الوطن العربي، ولو وجده هنا أو هناك لكان دون المؤمل، وحديثي الممتعض لم يكن الأول ولا أحْسِبه يكون الأخير فالمستَبْطنون للهمِّ يواصلون البحث عن مجمل الخيارات لتحقيق الحضور محلياً والتواصل مع آداب الأمة العربية عربياً، ويتساءلون فيما بينهم:
- كيف يشيع الأدب بكل فنونه بين أهله وعشيرته؟
وذلك أقل الحقوق، وقد أطلقها (شوقي) مُدوِّية حين نُفِي من مراتع صباه:
(أُحرامٌ على بلابله الدَّوْحُ
حَلالٌ للطير من كلِّ جِنْسِ
- وكيف يصل على صورته المشرفة إلى آفاق العالم العربي الذي فاضت آفاقنا بآدابه؟
- وهل أحد من المبتدئين أو الممتلئين يجهل أدق التفاصيل عن الأدب المصري أو غيره من آداب الأمة العربية داخل أروقة الجامعات أو في قاعات المكتبات أو على أنهر الصحف وصفحات المجلات أو عبر الدراسات الأكاديمية؟
وإذا رضينا بعض الرضى عن الإنتاج الأدبي المحلي إبداعاً وتاريخاً ودرساً فإننا سنظل ساخطين كل السخط على عجزنا عن إشاعته محلياً وتصديره فما تجود به المطابع تستقبله المستودعات ليظل ثاوياً بانتظار دابَّةِ الأرض فالوزارات التي تشجع المؤلفين والناشرين بشراء النزر اليسير لا تعمل على إشاعته بين الناس محلياً، فضلاً عن إيصاله إلى الملحقيات الثقافية لإهدائه إلى الأدباء والنقاد في البلاد العربية التي تكرس في أذهان ذوي الاختصاص من أهلها أننا دولة نَفْط ليس غير، كما لا يحفل به ناقد ولا تُسوِّقه مكتبة مثلما تفعل مع إصدارات الأدباء العرب، أقول ما تقرؤون (وما أنا إلا من غزية) إذ لا أريد أن أبرئ نفسي، وإن كان لي جهد المقل فأنا أعيش بعض الحضور دارساً ومدرساً ومشرفاً ومناقشاً ومحكماً وممثلاً لبعض المؤسسات في المؤتمرات ومشيراً لكل من طرق بابي من طلاب الدراسات العليا وطالباتها. واهتمامي المبكر بالأدب السعودي حفزني على اختياره لرسالاتي العلمية والقبول بتدريسه على مدى ثلاثة عقود لقسم الليسانس والإشراف والمناقشة والتحكيم لعشرات الرسائل العلمية وحضور المؤتمرات في الداخل والخارج وتجهيز غرفة خاصة به ملحقة بمكتبتي المنزلية تنيف محتوياتها على أربعة آلاف كتاب، وفتحها لكل الراغبين من طلبة الدراسات العليا، وليس فيما أقول تفضل ولا مِنَّة بل الفضل كل الفضل والمنَّة كل المنة لبلادي وأدبها وأدبائها، إذ أفدت واستفدت مادياً ومعنوياً، والفضل للأدباء والنقاد الذين شايلوني هذا الهم إذ لست وحدي الذي أعطى القليل من الجهد والوقت لهذا الأدب الجدير بالخدمة والتصدير.
والقضية أكبر من أن ينهض بها أفراد قلائل، حتى ولو تفرغوا لهذه المهمة الوطنية، إن قضية إشاعة الأدب وطرد الغربة عنه مهمة المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية وحتى السياسية فهو الذي يحمل الهم والهوية وهو الذي يحقق من الوفاق ما تعجز السياسة عن تحقيقه.
ولكي يتوفر حديثنا على أكبر قدر من المصداقية والواقعية فلابد أن تشير إلى جهود فردية ومؤسساتية منحت هذا الأب شيئاً من الجهد والوقت والمال، ولكنها جهود ظلت مرتهنة بالمحلية، فلم يصل الأدب إلى ما وصلت إليه الآداب العربية، ولم يَشِعْ بمثل شيوعها، ولم تعرف أدق التفاصيل عنه مثلما عرفت عن سائر الآداب العربية المعاصرة، والموسوعات والقواميس والدراسات والتراجم لمَّا تزل تنجم بين الحين والآخر، وهي إسهامات على الرغم من تواضع بعضها، إلا أنها ربما تكون نواةً لتجسير الفجوات والتواصل مع الآداب العربية الأخرى، لو أتيحت لها السيرورة وتخطي محيط الإصدار.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أشير إلى بعض من أرخوا للأدب أو ترجموا للأدباء أو درسوا بعض الظواهر الأدبية ك(ابن إدريس) و(الساسي) و(ابن حسين) و(أبي داهش) و(الفوزان) و(العقيلي) و(مسلم) و(الحلو) و(شباط) و(الخطيب) و(القرني) و(الخطراوي) و(الحميد) و(أميرة الزهراني) وآخرين من أقطار عربية ك(الشيخ أمين) و(الشنطي) وكان أن تقصيت ذلك مع زميلين كريمين في كتابنا (الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب) وقد تعاضدنا فيه مع إسهام مماثل للأستاذ الدكتور (منصور الحازمي) وآخرين تحت عنوان (أدبنا في آثار الدارسين).
ولربما يأتي في ذروة الدراسات (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث لمجموعة من الدارسين الأكفاء وتقع الموسوعة في تسعة مجلدات، ومن المؤسسات التي اهتمت بالتراجم (الدائرة للإعلام المحدودة) التي أصدرت (معجم الأدباء والكتاب) ومن قبلها (جمعية الثقافة والفنون) ومن قبلهم جميعاً المرحوم (عبدالقدوس الأنصاري) في عدد خاص من مجلة (المنهل).
ولعل العمل الرائد الذي تسعى لتحقيقه (دارة الملك عبدالعزيز) تحت عنوان (قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية) يسد الثغرات القائمة، ويؤدي إلى التعرف على الأدب الحديث في المملكة، والإعداد لهذه الموسوعة يبشر بخير، ولا سيما أن رئيس المجموعة أخونا معالي الدكتور فهد السماري والمشرف العلمي الأستاذ الدكتور محمد الربيع بما يتوفر عليه من هم وتجربة وإمكانيات، والشروط والضوابط في مستوى علمي ومنهجي مُرضي.
وكل هذه الإسهامات بمختلف مستوياتها واتجاهاتها لا يمكن أن تحقق المراد منها ما لم تجد طريقها إلى القارئ العربي، ولن يتم ذلك حتى يعاد طبع الموسوعات والدراسات في أكثر من دولة عربية وحتى يتم توزيع المجاميع الروائية والقصصية والشعرية والدراسات والموسوعات إهداء أو بأسعار مدعومة على كبار الأدباء والنقاد، إذ لم يعد التأليف وحده مجدياً، وإذ تكون إشكالية الأدب السعودي في التوزيع، فإن هناك إشكاليات أخرى منها الذاتية التي تتعلق بالأدب من حيث الفن واللغة والموضوع، وهي أسباب ستظل معوقاً رئيساً لحراكه ومعانقته للآداب فالأدعياء المنتهكون لقواعد الفن وأركانه وشروطه والمتمردون على سائر القيم من الجناة الذين لا يغتفر لهم، والنقاد المواطئون على الخطيئات يتولون كبر ذلك كله، فلو صدق النقاد وواجهوا الأدعياء والمتهتكين والمقوين بما هم عليه لكان خيرا لهم وللأدب، ولكنهم سايروا أو غلبوا السلامة بالصمت، فخلا الجو لِلْجُوفِ والموبوئين ولسنا بدعاً من أدباء الأمة ففي كل قطر مُغثون يقولون منكراً من القول وزورا ولو هيئ لهؤلاء وأولئك حرَّاسٌ للفن واللغة والفضيلة لكان أن نفوا من مشاهد الأدب، وإن كان البقاء للأصلح والزبد يذهب جفاء، فيما يمكث ما ينفع الناس، بيد أن التصدي لبوادر الضعف والتهتك من محققات المصداقية والصدق في القول.
لقد شب الأدب السعودي عن الطوق، ولم يكن أدباً إقليمياً، ومن حقه أن يأخذ مكانه، وأن يؤدي دوره، وأن يكون حاضر المشاهد كلها فما من لقاء أحْضُره أو مؤتمر أشارك فيه إلا وتثور التساؤلات عن أدب لا يقل عن آداب الأمة العربية، ويجب ألا نرقب من ينهض لتصدير أدبنا بالإنابة عنا فنحن أحق بالنهوض بهذه المهمة، وبقدر أهمية التصدير تكون أهمية التنقية والتصفية، فالشوائب من العوائق، وما لم نكن قادرين على مواجهة الإخفاقات فإننا لن نكون قادرين على تجسيد الفجوات، وليس من الضروري أن تتسم المواجهة بالصدامية والإقصاء والتهميش، ولا أن تبلغ المجاملة حد إعطاء الدنية في الفن والقيم، وإذ نكون مُتْفَتِحين على كل الاتجاهات قادرين مادياً ومعنوياً على استقبال كل الخطابات فإن من حقنا بل من واجبنا أن يبادلنا الآخرون بالمثل.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.