لكل منّا طقسه الداخلي، نحسه ونتلحفه، ثم نصنع، دون وعي، مناخاتنا الخارجية منه!
كلنا نتاج ما نحس ونشعر، وليست سلوكياتنا بمعزل عن دواخلنا، فهذا الأثر من ذاك المؤثِّر.
تتملكنا نوازع الإنسان، وتتقاذفنا المشاعر المتلاطمة، فنقع
أسرى الحب حيناً، وتهوي بنا البغضاء في قيعانها أحايين أخرى. تسري في داخلنا نفحات العطاء أواناً، وتتغلّب فينا شهوة الامتلاك والانحياز للنفس أوانات أخرى!!
نغضب ونفرح، نعطي ونمنع، نضحك ونبكي، وفي كل أحوالنا لسنا سوى النتاج لمشاعرنا المضطرمة في عمق أجوافنا!
نعم، مناخاتنا الخارجية هي صدى لما نعيشه من طقس داخلي، ولا نملك من ذلك فكاكاً إلا بمهارات وقدرات خاصة، قد نكتسبها بالفطرة، وقد نوجدها وننميها بالمران ولجم الهوى.
أقوى مهارات الإنسان أن يقف في وجه نفسه، أن يسبح ضد تيار الأنا، أن يصوغ من عتامة الكراهية ثريّات مضيئة بالحب، وأن يتسامح مع عدالة العين بالعين والسن بالسن، فيحلِّق في فضاء الإحسان لمن آذى، والعطاء لمن أجحف، والابتسام لمن قطب حاجبيه وكشَّر عن نابيه!
هي تلك أشرس معاركنا حين التنادي للنزال، وهل أقسى من أن نجعل من أنفسنا غريماً نتنادى لنزاله؟!
يحدثني أحد أصدقائي عن معركة خاصة يعيشها، بل يكتوي، كما يقول، يومياً بنيرانها. هو يعتقد بأن الغربة تكتسح كيانه، وتعزله عن محيطه، رغم أن جغرافيا المكان لم تتغيّر.
هذا الإحساس كم يؤرِّق إنسان اليوم! إنه فيروس المدنية الذي أطلقته الحضارة وفقدت زمامه.
غربة كئيبة تكتسح الدواخل، وتملأ النفوس قتامة. تهرب الذوات من المعركة لساحات أخرى، حيث تذوب المواجهة وتستحيل غمامات للوهم. يهرب شبابنا إلى غرف الدردشة مع مَن لا يعرفون، ويبوحون بمشاعرهم، بل بأسرارهم لمن لم يلتقوهم أبداً في حياتهم. يغرق آخرون في متابعة الأفلام بشكل أقرب للحالة المرضية.. رعب وخيال علمي وعنف وجنس وهلوسة!
تتلفت في الشارع المزدحم، فلا تعدم من يكلم نفسه ويحرّك يديه دون وجود من يكالمه!
تركب الطائرة أو الحافلة وتتفرّس متلصصاً في الوجوه. يلفت نظرك الوجوم الذي يسود، والانطواء على الذات الذي يخيّم على الجميع!
انزوت الهموم العامة أو كادت، وأصبح الحوار محصوراً بين النفس وصاحبها. هي حالة غريبة عجيبة من الغربة في قرننا الحادي والعشرين، هي غربة النفس بين أهلها وعشيرتها، هي غربة جغرافيا الأحاسيس والمشاعر، هي غربة الإنسان عن نفسه وعالمه.
الحالة ليست شبابية بشكل محض، بل هي عامة، صحيح أن الشباب الأكثر اكتواءً بغربة الذات، وكم أبحرت في منتدياتهم متلمساً ما يحسون ويستشعرون، فوجدت الاغتراب الداخلي جزءاً من بوحهم الدائم، ووجدت ملاذاتهم الآمنة نفساً وروحاً هي لمن لا يعرفون، حيث صنعوا بمهارة عالمهم الافتراضي، وهربوا بدواخلهم عن عالمهم الحقيقي، وكل بما كسبوا فرحون!
غير الشباب أيضاً ينطوون على ذواتهم، ويغرقون في (ديالوجهم) الداخلي، وما حالات الاكتئاب والانتحار والانزواء عن الحياة العامة والتي نسمع بها ونقرأ عنها إلا انعكاس للظاهرة، وما ضحاياها، وكثير منهم تخطوا الأربعين، إلا ثمرة ما يجري وينخر في العظام!
هل (الحزن) قاسم مشترك في حالات الاغتراب الداخلي؟ لا نجزم بقول (نعم)، لكننا نقر بوجود صلة ما بين أحزاننا وحالات الغربة في الديار. فأينما كنا فنحن جزء من كل، وجميعنا في مركب واحد، تتقاذفنا الأمواج سوياً، وتتهدّدنا الترسانات النووية سوياً، وتقلقنا تغيّرات المناخ سوياً، ويقضّ مضاجعنا نضوب الثروات سوياً. كلنا، ومهما انطوينا على ذواتنا، جزء من كل، نستشعر ما يجري من حولنا حتى لو مارسنا الهروب، وتغرقنا الأحزان مما يرد إلينا من أخبار الظلم والجور والحيف وسلب الحقوق.
الإنسان لا يستطيع بمفرده تغيير الدنيا، والدنيا تسير بدفع ذاتي تتحكم فيه قوى بعضها ظاهر وبعضها خفي، والإحساس بالضعف والهوان أصبح شعوراً إنسانياً طاغياً على سطح الكرة الأرضية، فكيف لا يكون الحزن رقماً أساسياً في غربة الإنسان الداخلية، وكيف لا يلوذ الكثيرون بالوهم وبالعوالم الافتراضية لصنع واقع فشل عقلاء العالم في توفيره وصنعه؟!
أجل ، لكل منا طقسه الداخلي، ولكل منا أحزانه المغمودة في الكبد. وإذا شئنا يوماً أن نحاكم مناخاتنا الخارجية فلا بد أن نستصحب طقسنا النفسي، والسفينة التي نبحر جميعاً داخلها، ومخاضات عالم لا يعرفنا إلا كأرقام، حيث تلاشينا في زحام لا يقر بنا ولا يسمع صدى لوجعنا وأنيننا!
بوح القصيد
الأبيات من قصيدة لنزار قباني
علَّمَني حُبُّكِ أن أحزن
وأنا مُحتَاجٌ منذُ عصور
لامرأةٍ تَجعَلَني أحزن
لامرأةٍ أبكي بينَ ذراعيها
مثلَ العُصفُور..
لامرأةٍ تَجمعُ أجزائي
كشظايا البللورِ المكسور
علّمني.. أخرجُ من بيتي
لأمشِّط أرصفةَ الطُرقات
وأطاردَ وجهكِ..
في الأمطارِ، وفي أضواءِ السيّارات
وأطاردَ طيفكِ..
حتّى.. حتّى..
في أوراقِ الإعلانات
أدخلني حبُّكِ سيِّدتي
مُدُنَ الأحزان
وأنا من قبلكِ لم أدخل
مُدُنَ الأحزان..
لم أعرِف أبداً أن الدمعَ هو الإنسان
أن الإنسانَ بلا حزنٍ..
ذكرى إنسان
الخرطوم
shatarabi@hotmail.com