إن أوروبا وحكوماتها الوطنية تَنعَم الآن بقدرتها الجديدة على العمل وهذا لسبب وجيه. فمن كان ليتصور منذ سنوات قليلة أن أوروبا المنقسمة، وليس الولايات المتحدة، هي التي ستقرر مسار جهود احتواء الأزمة المالية العالمية؟
إن الأزمات الخطيرة تشكل لحظات فارقة في التاريخ. ولا شك أن الولايات المتحدة تمر الآن بفترة خلو العرش إلى أن تختار لنفسها رئيساً جديداً. فضلاً عن ذلك فإن جورج دبليو بوش يبدو أضعف كثيراً من أي رئيس طبيعي أوشكت فترة ولايته على الانتهاء، الأمر الذي أسفر عن ذلك الخواء في الزعامة العالمية، والذي سارع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى سده بكل نشاط وقوة.
وبصفته رئيساً حالياً للمجلس الأوروبي أيضاً فقد اضطلع ساركوزي بهذا الدور في أزمة جورجيا، وهو الآن يسعى إلى تعزيزه.
فمن خلال التربع على رأس المجموعة الأوروبية، التي تتألف حتى الآن من خمسة عشر من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تستطيع الرئاسة الفرنسية أن تعتمد على مجموعة سياسية طليعية عاملة.
والحقيقة أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بقاعدة مؤسسية قوية، وبخاصة فيما يتصل بالقضايا المالية والقضايا المتعلقة بالعملة النقدية - وهي القاعدة التي تتألف من عملة اليورو الموحدة، والبنك المركزي الأوروبي، فضلاً عن المعايير الملزمة في التعامل مع أمور الميزانية والديون، والتي تتمثل في معاهدة ماستريخت.
ولقد أظهرت الأزمة المالية العالمية الحالية مرة أخرى أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بالقوة حيثما تتكامل مصالح بلدانه الأعضاء ويفتقر إليها حيثما فشل في توحيد مصالحها.
لا شك أن الأزمة ما زالت قائمة، إلا أننا نجحنا في كسب الوقت ونستطيع أن نلتقط أنفاسنا - لا أكثر ولا أقل. فحين يجد المرء نفسه معلقاً فوق الهاوية، كما كانت حال النظام المالي العالمي طيلة الأسابيع القليلة الماضية، ثم يتمكن من وضع قدميه على أرض صلبة، ولو بصورة مؤقتة، فإن هذا يشكل فارقاً ملموساً.
ولكن إذا ما ذهبنا إلى ما هو أبعد من سوق الرهن العقاري، فلسوف نجد مخاطر أخرى ضخمة كامنة، وبخاصة فيما يتصل بالنظام المالي في الولايات المتحدة: بطاقات الائتمان، وقروض السيارات، وبضعة أمور أخرى.
وعلى هذا فهناك من الأسباب الوجيهة ما يدعونا إلى التشكك في قدرة الإجراءات التي اتخذتها الحكومات والبنوك المركزية مؤخراً على معالجة الأزمة حقاً.
وبالتوازي مع هذا، تكاد الكارثة التالية أن تلحق بنا، وتهدد بإغراق الاقتصاد الحقيقي. صحيح أن الجميع يتذمرون بشأن فقاعة المضاربة الأميركية، ولهم الحق في ذلك، ولكن الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد أن الاقتصاد العالمي بالكامل - من الصين إلى ألمانيا - استفاد لعقود من الزمان من إفراط الأميركيين في الاستهلاك استناداً إلى الاستدانة. وأثناء تلك الفترة كانت صيغة النجاح التي اعتمدت عليها ألمانيا قائمة على تصدير الآليات والمعدات الثقيلة إلى الصين وكل مكان في العالم، وسيارات البورش والمرسيدس والبي إم دبليو إلى الولايات المتحدة.
وعلى هذا فإن انحدار الاقتصاد الحقيقي على هذا النحو الضخم، في أعقاب انهيار النظام المالي الواهن، سوف يخلف أشد العواقب خطراً على ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
والحقيقة أن العالم لن يتمكن، على الأقل في الأمد القريب، من الاستعاضة عن محرك النمو المتعطل في الولايات المتحدة بتحفيز النشاط الاقتصادي المحلي في آسيا، وبصورة خاصة في الصين. وهذا يعني أن الاقتصاد العالمي يقترب من الركود العميق المطول.
ولا نستطيع حتى أن نستبعد حدوث كساد عالمي في مواجهة هذه الأزمة الخانقة.
حتى الآن، وبفضل اليورو والبنك المركزي الأوروبي وغوردون براون وساركوزي، كان أداء الاتحاد الأوروبي طيباً أثناء الأزمة المالية العالمية.
بيد أن الارتباط بين الأزمة المالية العالمية والأزمة الاقتصادية العالمية سوف يجعل أوروبا في مواجهة تحديات عسيرة - ولكنه سوف يشكل أيضاً فرصة كبيرة.
نستطيع أن نقول ببساطة إن الدول القومية في أوروبا أصغر حجماً من أن تتمكن من معالجة أزمة بهذه الأبعاد الضخمة بمفردها.
ولن يتسنى إلا للاتحاد الأوروبي أن يحمي مصالح كل الأوروبيين - بما في ذلك تلك المصالح خارج منطقة اليورو، بل وحتى خارج الاتحاد الأوروبي.
ولكن رغم نجاح الأوروبيين في إنشاء مؤسسات قوية إلى جانب اليورو والبنك المركزي الأوروبي، فإنهم ما زالوا يفتقرون إلى البنية السياسية الفوقية القادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية القادمة.
لقد ظلت فرنسا طيلة أعوام عديدة تدعو إلى تأسيس حكومة اقتصادية أوروبية في منطقة اليورو، وهو ما ترفضه ألمانيا حتى الآن، ولأسباب وجيهة: ذلك أن المبادرة الفرنسية لم تكن في حقيقتها سوى ضربة مستترة تريد فرنسا توجيهها إلى سقف العجز المالي السنوي الذي حدده الاتحاد الأوروبي لبلدانه الأعضاء بـ 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بل وضد استقلال البنك المركزي الأوروبي.
ثم جاءت المقترحات الرديئة التي طرحها الرئيس الفرنسي مؤخراً بشأن ملكية الدولة لتجعل الأمور أكثر سوءاً في برلين.
ولكن نظراً للأزمتين المالية والاقتصادية العالميتين، فإن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان يتعين على ألمانيا أن تتخلى عن مقاومتها للحكومة الاقتصادية الأوروبية، وأن تسعى بدلاً من ذلك إلى تقدم الطريق نحو تأسيس هذه الحكومة.
ففي كل الأحوال، إذا استمرت الأزمة في الأسواق المالية، وإذا ما اقترنت بهبوط كبير في الاقتصاد الحقيقي، سوف يصبح الاتحاد الأوروبي بين عشية وضحاها عُرضة للخطر الشديد إذا ما عجز عن تقديم الاستجابة السياسية المناسبة.
وعلى هذا فقد باتت الحاجة ملحة إلى التنسيق بين سياسات الاقتصاد الشامل والسياسات المالية على مستوى الاتحاد الأوروبي. وتتجلى لنا هذه الحقيقة على نحو أشد وضوحاً حين ندرك أن المفوضية الأوروبية برهنت في الوقت الراهن على فشلها شبه التام.
والعجيب أن تتجدد ولاية رئيس المفوضية الأوروبية غير الكفء لخمسة أعوام أخرى، وكأنه يستحق المكافأة لأنه مسالم وغير مؤذٍ.
ولكن يبدو أن هذه هي أوروبا، للأسف. لقد بات لزاماً على المستشارة الألمانية ووزير ماليتها أن يتعلما الآن وبسرعة من أخطائهما التي ارتكباها أثناء الأسابيع الأخيرة.
أما أن ينتظرا إلى أن ترغمهما الأحداث في أوروبا على سلوك المسار السليم فهي إستراتيجية أثبتت فشلها.
ويجدر بالحكومة الألمانية أن تسارع إلى تبني إجراءات جريئة من خلال تحديد المبادئ التي قد تقوم عليها الحكومة الاقتصادية الأوروبية، على النحو الذي يحافظ للبنك المركزي الأوربي على استقلاله ويصون السياسة المضادة للدين في إطار معاهدة ماستريخت.
هذا لا يعني تقسيم أوروبا، بل يعني في الواقع تشكيل مجموعة طليعية نشطة وشاملة. إن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى حكومة اقتصادية قادرة على التعامل مع الأزمة العميقة الطويلة القادمة. ويتعين على ألمانيا، ذات الاقتصاد الأضخم والأهم في أوروبا، أن تتقدم الطريق نحو تحقيق هذه الغاية وبكل حسم.
يوشكا فيشر كان عضواً قيادياً بارزاً بحزب الخُضْر الألماني لمدة تقرب من العشرين عاماً، ووزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها طيلة الفترة من العام 1998 إلى العام 2005م.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت
معهد العلوم الإنسانية، 2008م.
www. project-syndicate. org
خاص بـ«الجزيرة»