بائس ومحروم مَن لم يسعد بمحبة الناس، وغير محظوظ في هذه الحياة مَن لم يأنس ويشعر بلذة إسعاد الغير، وكم هو إنسان محظوظ وألف محظوظ من أجمع الناس على محبته، كيف لا وهم شهداء الله في الأرض.
بالأمس القريب فقدتُ الحبيب الطبيب أخي منصور، ليس أنا فقط بل جميع أفراد العائلة، وكل من عرف دماثة خلقه، وأنا واثق أن ذلك امتد إلى الكثير من الناس الذين عرفوه..
لقد فجعنا جميعاً بوفاة الأخ منصور عبد الغفار.
منذ نشأتي في عائلتي التي كان والدي - رحمه الله - عميداً لها وبدأت أعي ما حولي كان هناك إلى جانبه منصور صهراً وابناً باراً به، وقد كان والدي وعلى مدار حياته يردد دائماً أن منصور هو أكثر الأبناء براً ووفاءً وأعذبهم قولاً وأخلصهم معاملةً لمن يصاحب.
لم يكن هذا البر والمحبة النابعة من قلبه الطاهر - رحمه الله - لوالدي فقط بل امتد ذلك إلى جميع أفراد العائلة وما بعد العائلة كبيراً كان أو صغيراً ذكراً كان أو أنثى قريباً كان أو بعيداً.
كان - رحمه الله - بشوشاً صاحب حضور دائم، لا يتعب، ولا يكل، ولا يمل، بل يسعد بمشاركة صاحب الفرح في فرحه، أياً كانت الظروف، ومواساة المحزون في حزنه، ومساعدة الغير.. لقد كان يصل الرحم ويكظم الغيظ ولا يعاتب مقتدياً بحديثه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)..
كل ذلك وغيرها من صفات رأيتها فيه، كنا نستقي منها، وكان محبوه - رحمه الله - ينهلون منها ليتعلموا كيف يكون الإنسان وكيف يعامل المرء أخاه في فرحه وحزنه.
لقد كان - رحمه الله - منبع الاهتمام بالغير، فإذا ما خاطب الطفل أو الشيخ أو العالم أو الجاهل أو صاحب الحاجة مهما كانت حاجته أو المحزون أو الإنسان السعيد فسوف يشعرك أن من أمامه وكأنه هو الوحيد المهم في تلك اللحظة، ولم يكن هذا الأمر إلا لاهتمامه بغيره وبصالح الآخرين.
منصور مخفف الصدمات على الكل، ملاذ الأخوات، وثبات العم والخال والعمات، وسند الزوجات لقضاء الحاجات، وحل المشاكل، لقد كان يهتم بجميع أفراد العائلة ويأنس للحديث لهم، ولعل ما كان من لقاءات ودعوات متكررة لكل أفراد العائلة في نهاية شهر الخير شهر رمضان المنصرم إلا كإشارة لوداع الأخ والصديق والعزيز على قلوب من عرفوا أخلاقه وفعائله حيث ما كان يذكر العمل الصالح في أي مكان إلا ويذكر منصور الإنسان.
لقد كانت حياته الوظيفية تعكس الجهد الملموس والمثابرة الحقة والانضباط التام وحسن الخلق الرفيع والتعامل الحسن والقيادة الحديثة بأفضل الأساليب والطرق التي نهل منها وتعلم كل من تعامل معه وعايشه، حيث بدأها - رحمه الله - منذ وقتٍ مبكر حيث استفاد بشكل كبير من خبرة من سبقوه ليحقق معدلات عالية في أدائه وخدماته الواضحة في مصلحتي الجمارك والزكاة والدخل، وخرج منها بذكرى عطرة مع كسب الاحترام ومحبة كل من تعامل معهم، كان يتحدث دوماً - رحمه الله - عن كيفية تطويع النظام لمساعدة الغير وليس كسره، ولقد كان حريصاً على مساعدة الناس في فهم حقوقهم وواجباتهم.
وحينما تقلد رئاسة مجلس إدارة غرفة ينبع أصر على عمل شيء للمدينة التي ولد ونشأ فيها، وبدأ العمل، وأزال الخصام، وعقد الندوات، وجلب الدعم بكل ما استطاع، وأحسن العمل بجد وتفان.
وعند التقاعد، كنت أشعر بأن لديه طاقة متجددة، وكان يحدثني وكأنه غداً سوف يبدأ أول أيام حياته الوظيفية، تواقاً لعمل أي شيء يخدم فيه الوطن أو المجتمع أو العائلة أو الغير، وفعلاً تم ترشيحه لمجلس الشورى حيث خدم فيه لفترتين وأكثر، ولا أستطيع أن أعلق هنا أكثر مما قاله معالي الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى معزياً (لقد خيم الحزن علينا اليوم لرحيل الأخ منصور عبد الغفار؛ فقد كان محبباً للنفس ومركزاً للحكمة والنصح).
أبا أمل لن أستطيع حصر الكم الهائل من صفاتك وسماتك التي انتهلت منها واهتمامك ورعايتك لي طفلاً ثم مراهقاً ودعمي حين استقام بي الحال رجلاً، إضافة إلى تقديمي النصح والمشورة لي وتعريفي بأصدقائك أفضل الرجال وتفقدك لأبنائي وعائلتي وقت غيابي عن الرياض، فجزاك الله عني وعن أسرتي خير الجزاء.
فعلاً كان - رحمه الله - يقابل الوفاء بالوفاء، فإن نظرة واحدة على جملة عقلية هذا الإنسان المبدع تكفيك لتعلم أننا أمام أنموذج نادر قَلّ أن تجد مثله ومثل أخلاقه وطيبته ووفائه رحمه الله، فلم يكن منصور نبض عائلته ومحبيه فقط، بل كان - رحمه الله - فارساً من فرسان الود والتواضع والرحمة والوفاء والأخلاق الحميدة.
أبا أمل ما أفدح مصابنا فيك.. وكان الله في عون محبيك.. المفجعين برحيلك، وكان الله في عون كل من كان يرى فيك العون له في مصيبته، كما أننا محزونون لفراقك، وهو أمر لا خيار لنا فيه ولا قرار؛ فنحن على يقين أن الفراغ الذي سوف تتركه يصعب على أي شخص كان سده. وما يواسينا وفاء أصدقائك ومحبيك لك ولأبنائك وبناتك؛ فالكل أتى ليقدم التعزية لهم وليستقبلوا العزاء فيك، وكم نحن فخورون بتقدير ولاة الأمر لك.
أخيراً عزائي إلى أختي وأبنائها أمل ومحمود وأيمن وبناتها غادة وخلود وإلى الأخت عزيزة والأخت خديجة وإلى الأخوان عواد وأحمد وعبد الله وكل قريب وبعيد وكل من صادق وزامل وأحب أبا أمل الذي جعل من المعنى العظيم الذي تركه لنا قيمة إنسانية في وقت نحتاج فيه إلى أن نعمل بما نعرف أنه الحق.
ويبقى أن أقول شيئاً: إن أبا أمل الذي كان محل الابن البار الرضي الوفي لوالدي - رحمه الله - وكانت بينهما محبة لا توصف ألفت بين نفسيهما رحل عنا في التاسع عشر من شوال، وهو اليوم الذي رحل فيه والدي.
اللهم إنا ندعوك أن تغفر لهما وتثبتهما بالقول وتسكنهما فسيح جناتك وترحمنا إذا ما صرنا إليهما فقد احتسبنا وصبرنا لفراق الأحبة.