عرف العرب النكتة من أقدم العصور، وألف فيها الأوائل نفائس الكتب ومنهم الجاحظ والنويري وابن الجوزي وأبو حيان التوحيدي وغيرهم كثير، واشتملت على أنواع النوادر والقصص الفكهة، والمواقف المضحكة وتبعث السرور على النفس دونما تكلف أو إسفاف.
ومن وفي قواميس اللغة ورد معنى (النكتة) بأنها (كالنقطة) ويقال لها (اللطيفة) إذا كان تأثيرها حيث تورث نوعا من الانبساط، وقيل إن من معانيها الكلام وهو الجملة المنقحة المحذوفة الفضول. واستمرت النكتة مع مختلف الشعوب بعامة والعرب بخاصة. والنكتة وليدة لحظتها، وتعتمد على سرعة بديهة قائلها علنا أو من خلف الكواليس، ويتداولها الناس، وتدخل في كل ناد ومجتمع. وتخصص باحثون في دراسة وتحليل النكتة العربية وأبعادها الاجتماعية والسياسية. وأجمعوا أن النكتة (أو الفكاهة) (الباب الخلفي لوعي المجتمع) ومن تحليلها يمكن أن نرى (إلى أين يتجه مؤشر الوعي). وفي النكتة من الحبكة والبراعة ما لا تستقطبه قصيدة، وفيها من الخيال والرشاقة والطرافة ما يجعل المرء يتعجب من مهارة صانعها الذي لا تجاريه ريشة وأزميل، وفيها أيضا من المعاني ما يختصر حديثا أو خطابا، وفي النكتة من الإيحاء ما يرقص اهتزازا وطربا.
وفي كل عصر يبرز الظرفاء وأصحاب الفكاهة فيبعثون المرح والسرور في المجتمع ومن أولئك (أشعب) و(أبودلامة) و(أبو نواس) و(جحا) و(قراقوش) وهكذا تستمر المسيرة مع النكتة حتى وعينا على صوت (محمود شكوكو) و(أبو لمعة) و(إسماعيل ياسين) و(فؤاد المهندس) و(عبد المنعم مدبولي) و(غوار الطوشة) ورفيق دربه (نهاد قلعي).
وتنتشر النكات والفكاهات في المجتمعات وقت الأزمات والظروف الصعبة نتيجة للفتن والحروب وتعسف الحكام والسلاطين، فلا يجد الناس من وسيلة للتعبير عما يشعرون به من بؤس وحرمان سوى تفجير مواهبهم في السر والعلن. وتشكل السينما والمسرح وسيلة تواصل مع الجمهور لنقد الأوضاع في المجتمعات من خلال النكات والفكاهة. وهناك من النكات ذات المغزى السياسي أودت بصاحبها إلى التهلكة أو ما لا تحمد عقباه. وعلى أي حال فالنكتة اليوم أصبحت جزءا من الحياة الاجتماعية ووسيلة للتعبير بصرف النظر عمن يروج لها لأنها وليدة اللحظة. سمعت مرة اثنين من إخواننا المصريين وهما يستعرضان ما سببته هزيمة حرب يونيو وتأثير حرب الاستنزاف على الأوضاع في مصر وارتفاع أسعار البترول، قال أحدهم (دول عايزين نركب حمير) فأجابه زميله على الفور (حيرفعوا سعر البرسيم يا شاطر).
ويقودني الحديث عن ثقافة النكتة ما أفرزته نتائج الانتخابات الأمريكية والتي انتهت بفوز المرشح (باراك أوباما) الذي ينحدر من جذور أفريقية، فما أن أعلنت نتيجة فوزه حتى انهالت مجموعة من النكات التي يتبادلها الناس في بلادنا عبر الجوال والساحات وداخل الصوالين المغلقة، وقد نوهت بعض الصحف المحلية عن ما حوته بعض تلك الرسائل من إسقاطات على المجتمع، وفيها شيء من التنفيس البريء أو المتعمد مع ما في هذه الرسائل من إسفاف وعدم التأدب مع الدين والمجتمع. ولعل الرابح من وراء ذلك وسائل الاتصال من جهة، وممن يصطاد في الماء العكر للتشويش على مجتمعنا وإثارة النعرات.
هناك فيما يبدو لي شريحة كبيرة في مجتمعنا، ينقصهم الوعي والإدراك عن أبعاد الانتخابات الأمريكية التي ينشغل بها العالم أجمع كل أربع سنوات، كما أن تلك الشريحة ما زال على وجوههم وعقولهم غشاوة عن قوة المجتمع الأمريكي وتنوعه السكاني الذين انصهروا في دولة واحدة تحت مظلة الدستور الأمريكي الذي جاء نتيجة لاتحاد فيدرالي بين إحدى وخمسين ولاية تحتل مساحة واسعة من أمريكيا الشمالية، واستطاعت الشعوب الأمريكية التي توافدت على هذه القارة على مدى قرون، أن تُكون دولة أصبحت القوة الأعظم في العالم اليوم. وبالرغم من ما شاب المجتمع الأمريكي من نزاعات عرقية، وامتهان البيض القادمين من أوروبا للسود المجلوبين بالقوة من أفريقيا، وحرمان السكان الأصليين من حقوقهم إلا أن الحكمة سادت، فأصبحت أمريكا في نظر العالم مثالا يحتذى للتعايش تحت مظلة النظام، مع بقاء شوائب ملازمة لحياة المجتمع الأمريكي. وأمريكا التي أصبح لها نفوذ عالمي لم يأت من فراغ، فبالعلم كسبت وأخذت السبق، وبالعلم هيأت أمريكا بنية تحتية، واستقطبت العقول من كل بلاد الدنيا، فقامت نهضة علمية جذرية في مختلف حقول المعرفة. أمريكا وجهة للسياحة والمعرفة والهجرة من كل أصقاع الأرض، وبالرغم من مختلف مشارب شعوبها فالقانون هو الذي يسود بصرف النظر عن الدين والعرق، وتعلم المجتمع الأمريكي معنى حقوق الإنسان، ومعنى التكاتف في الأزمات وتطوير المؤسسات والجمعيات المدنية. ومهما قلنا عن أمريكا وتناقضاتها فإن الكارهين والمحبين لها على حد سواء يذهبون إلى كل بقعة في أمريكا. ولذلك فإن الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي فاز فيها أوباما والتي تبدو أنها انتصار للرجل الأسود فهذا الاستنتاج قد لا يكون دقيقا، فالذي فاز ليس أوباما لشخصه ولكنه العلم والمعرفة، والذي جلب الفوز لأوباما الدستور الذي يحتكم إليه الشعب الأمريكي من خلال اللعبة الديمقراطية وتفاعل المجتمع الأمريكي مع التغيير للأفضل. ها هو حلم (مارتن لوثر كنج) الذي قاد حركة التحرير والتغيير السلمي ضد العنصرية، يتحقق والفرص مواتية لأي أمريكي أن يخوض تجربة أوباما مهما كانت خلفيته الاجتماعية والدينية سواء من الهنود الحمر أو أمريكية لاتينية أو آسيوية.
إن الإسقاطات التي تفتقت بها ذهنية بعض السعوديين (وربما من غيرهم) خلال الانتخابات الأمريكية نابعة من رواسب وأمراض في نظرتنا للآخر والنعرات التي تطفو على السطح، واستغلال البعض لتفريغ إسقاطاتهم على المجتمع. تجاهلنا أن الدين الإسلامي كفل للمجتمع حقوقه قبل الدستور الأمريكي وكل القوانين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وهذا نبي الخلق محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع يقول (يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
وضرب نبينا محمد أعظم الأمثلة في تعامله مع أصحابه الذين كانوا من جنسيات وأعراق مختلفة فهذا سلمان الفارسي الذي تنبأ له الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهذا صهيب الرومي (رومي اللسان عربي الأصل) يترك ماله في مكة ليلحق بالرسول في المدينة فيقول له النبي (ربح البيع ياصهيب) وهذا بلال بن رباح الذي نال أشد التعذيب على أيدي كفار قريش، يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ليقف على جدار الكعبة ليرفع صوته بالأذان. هذه القيم والمثل العليا هي التي ننشدها في مجتمعنا، الذي أنعم الله عليه بالوحدة بعد فرقة، وبالأمن بعد خوف. ولذا فإنه من الإسفاف التعريض بالقضاء السعودي وقيم بلادنا من خلال النكات الهابطة وسقط الكلام. التنفيس جميل والنقد الطري جميل مقبول كما هو ديدن السلف الصالح وأهل الأدب والفكر. والله الهادي إلى سواء السبيل.
Alrashid.saad@yahoo.com