قرأت خبراً طريفاً وأنا في طريقي للمنيا بالقطار عن لائحة المطبوعات الحكومية التي صدرت في أواخر عهد السلطان عبدالحميد الثاني من تسعة بنود.. أهمها أنه لا يجوز الكلام عن المظاهرات والثورات التي تحدث بالخارج لأنه ليس من حسن السياسية أن يعلم رعايانا بوقوع الحوادث.
ولعل من أغرب تطبيقات هذه اللائحة كان الخبر المطول الذي قدمته صحيفة عثمانية للرقيب ويتضمن آنذاك تغطية لأحداث الثورة الروسية التي انتهت باستيلاء الشيوعيين على الحكم بقيادة لينين عام 1917 فحذف الرقيب من مجمل ما حذف كلمات مثل (الثورة) دستور و(حقوق أمة) وظلم وكل ما يتعلق بالهجوم على القيصر أو ثورة الشعب.. ولم يتبقَ من الخبر المطول إلا سطر واحد نشرته الصحيفة في اليوم التالي للثورة كالآتي: حدثت أمس خناقة في روسيا!
(مقطع من رواية تغريدة البجعة المرشحة لجائزة بوكر العربية عام 2008 للمبدع مكاوي سعيد).
تطلعت إلى الصفحة الأولى في جريدة الوطن ليوم الجمعة 7 نوفمبر وعلى الزاوية اليسرى منها ظهرت صورة لسرير حديدي ضعيف الوصلات تستره مرتبة متهالكة بزقت أحشائها من كل جزء وبكل لون وفوق هذه المرتبة جلست ثمانينية تغرق ساقيها النحيلتين في مياه الأمطار التي غمرت عشها الفقير وهي تلتقط شيلتها السوداء لتمسح بها دموع الحرقة على منزلها الذي غرق في السيول التي داهمت جزيرة فرسان الأسبوع الماضي وفي اليوم ذاته وفي الصفحة السادسة من الحياة ظهرت صورة منازل كرتونية يطالب أصحابها من الفقراء بإصلاحها وهي الأعشاش التي جمعوا فوق سقفها كل ما تمكن أبناء الطبقة المتوسطة من الاستغناء عنه كأكياس وخياش وبلاستيكات وكراتين في محاولة منهم للتعايش مع الواقع المناخي من حرارة لاهبة أو مطر غزير كما هي حال هذه الأيام وفي الصورة يطالبون بتحسين (عششهم) حتى تتمكن من الصمود في وجه الشتاء والأمطار!!!
في ذات السياق ولكن بلون درامي مختلف قررت مجموعة من السيدات السعوديات أطلقت على نفسها اسم (أمهات الرياض) وبدعم من العديد من المنظمات الخيرية افتتاح روضة لأطفالهن من ذوي الاحتياجات الخاصة التي لا توجد مؤسسات تحتضنهم إما لنوع الإعاقة أو لبلوغهم سن متقدمة تعافهم فيها المؤسسات القائمة من حكومية أو أهلية وذلك في منزل إحداهن تبدأ بغرفة في منزل هذه السيدة على أمل أن تتمكن (لجنة أمهات الرياض) من تطوير هذه الروضة لتحتضن هذا النوع من الأطفال في مدينة الرياض ثم في مدن لاحقة ممن لا يجدون ملجأ مجتمعياً يحقق الحد الأدنى من الحق الإنساني لهذه الفئة من الأطفال.
وبذات الحدة يواجه مريض فقير مادياً أو فقير في علاقاته الشخصية عجزه عن اختراق حواجز المعارف الشخصية داخل شبكة المستشفيات الحكومية ليصل إلى حقه الطبيعي في العلاج كما يمتلئ سطح الفصل الدراسي ببقايا الأمطار التي اخترقت السقف المتهالك في إحدى القرى النائية وهكذا... نئن جميعاً (وتزاد الأمور حدة كلما قل حظك مادياً أو اجتماعياً) تحت وطأة ضعف الكثير من الخدمات الموجهة للعامة رغم حجم الموازنات الهائلة التي تخصصها الدولة لكل القطاعات دون أن نكون قادرين على الحديث بملء أفواهنا حول حقيقة ما يجري.. فالتقارير الدورية التي ترفع من المعنيين بهذه الخدمات تمتلئ بالإحصاءات المضللة عن عدد ونوع الخدمات وشموليتها وتحقيقها لأهداف التنمية المنشودة ومن ثم فإن ما يتاح للقيادة وعبر ما يصل لهم من الأطراف المسؤولة مباشرة عن الخدمات لا يتعدي تقارير يغشاها ما غشي التقرير الشهير العثماني المذكور من حذف وتنميق وإضافة حتى تصبح كل القصة عند الاطلاع عليها ومصادقتها ونشرها في صحفنا من قبيل: لقد (حدثت خناقة بالأمس في روسيا)!!!
لماذا لا نستطيع أن نتحدث؟؟ المسؤولون يقولونها بملء أفواههم.. أبوابنا مفتوحة فلماذا لا تذهب هذه الثمانينية إليهم ولماذا يبقى هؤلاء الفقراء في بيوتهم وقد يموتون في صمت دون أن يتمكنوا من اختراق سياسات الباب المفتوح؟؟؟
المسألة ببساطة أن مفهوم المساءلة العامة لا يعد أحد المفاهيم التي يخشاها المسؤولون داخل هذه القطاعات.. إنهم يعلمون يقيناً أن لا أحد من المتلقين لخدمات قطاعاتهم يمتلك حق المساءلة العامة ضمن منظومة مجتمعية تحقق الشفافية التي يتحدث عنها المسؤولون. قد يشتكي مواطن لموضوع خاص أو تجاوز فادح وقع عليه وقد ترفع أوراقه لكنها في الغالب تموت في الدهاليز الحكومية التي يحرص القائمون على شبكتها على حماية بعضهم البعض للبقاء أطول فترة ممكنة في كرسي السلطة. إنهم لا يحاولن التدليس أو إخفاء الحقائق لكن الإعلان عن الحقائق بدقة ومتابعة ليست مطلوبة بواسطة مؤسسات عامة يشرف المواطن على دقة حيثياتها. المساءلة العامة تعني أن يتمكن المواطن من الحصول والمتابعة لبينات دقيقة تتعلق بالخدمات الموجهة له في كل القطاعات.. إن الأمر يتعدى مجرد متابعة من الدولة لتطمئن على رعاياها.. حين يتحقق مبدأ المساءلة العامة يصبح المواطن شريكاً فعلياً في جهاز مراقبة يتسع بحجم هذا الوطن ولا تبقى الدولة المسؤولة الوحيدة التي عليها مطاردة التنفيذيين للتحقق من كفاءة أداء أجهزتهم.. توفر المعلومات وتحجيم المركزية وإعطاء صلاحيات متابعة للمجالس البلدية ولغيرها من مؤسسات الدولة المدنية التي نحلم بتبنيها هو الذي سيجبر هذه القطاعات على توفير معلومات دقيقة تتعلق بطرق الصرف والتوزيع العادل للخدمات بين المدن والقرى مما سيجبرهم على التحقق من مستوى الخدمات التي يقدمونها لوقوعهم تحت مجهر المحاسبة المجتمعية مما يحقق مستوى أعلى من الخدمات ويحقق العدالة والشفافية.
لا نحتاج إلى أن يداهمنا الشتاء والأمطار حتى نكتشف رداءة التنفيذ لكثير من المشروعات العملاقة التي وضعت لها كل هذه الميزانيات الأسطورية ولا يجب أن ننتظر حتى يتخرج أبناؤنا من مؤسساتهم المدرسية وهم يجهلون كيف يتحدثون مع الآخرين أو يعجزون عن استخدام مهاراتهم المنطقية لتعلم ما يستجد في سوق العمل فيبقون أسرى للبطالة والأمراض النفسية والإرهاب ولا يجب أن يعطي مواطناً ظهرت له مشكلة صحية فجأة موعداً بعد سنتين في المستشفيات الحكومية مما يضطره للتحول للقطاع الصحي الخاص على رداءة نوعية الخدمات المقدمة فيه..
المتابعة المجتمعية هي أحد الأسلحة السحرية التي تستخدمها الدول لضمان توزيع عادل لمواردها بين مواطنيها وهي أيضا تخفف العبء عن كاهل الدولة في مجال المتابعة وتحسن في العادة مستوى الخدمات لوقوع هذه الخدمات ضمن العام والمكشوف.
نحن اليوم ضمن رعايا القرن الواحد والعشرين والمؤسسات العامة التي تحقق المساءلة والمتابعة لعمل كافة الأجهزة العامة دون استثناء لم تعد مطلباً ترفياً لتحقيق مكتسبات ديكورية نتغنى بها في الصحف والقنوات الأجنبية.. إنها أحد مكتسبات هذا القرن الذي يؤكد على الحريات والمشاركة العامة وما لم نخطو بثبات في هذا الدرب فستظل صورة هذه الثمانينية تتكرر في صحفنا كل شتاء مهما بلغت الموازنات.