Al Jazirah NewsPaper Monday  17/11/2008 G Issue 13199
الأثنين 19 ذو القعدة 1429   العدد  13199

الجري وراء السراب -2-
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

من يتأمل واقع أمتنا في العقود الأخيرة يجد أن ثقة زعمائها بقدراتها ضعيفة جداً. ولعل من أسباب ذلك ما كان - وما زال- يوجد من أزمة ثقة بين هؤلاء الزعماء وأكثرية شعوبهم. ومن أدلة ضعف تلك الثقة أن منهم من أصبح لديه اقتناع بأن حل قضية أمتنا الكبرى..

قضية فلسطين.. لا يمكن إلا على أيدي قادة الدولة الأمريكية التي ترسخت قوتها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أصبحت القوة المهيمنة على مجريات شؤون العالم بدرجة كبيرة، ومن أوضح علامات هذا الاقتناع أن أحد زعماء أمتنا قال بعد حرب 1973م، إن 99% من أسباب حل مشكلة فلسطين بيد أمريكا. وهو بذلك القول لم يبق لكل العرب والمسلمين، ولا للدولة الصهيونية، إلا نسبة 1% من أسباب الحل. ربما أوحى إليه بذكر تلك النسبة، التي بدا فيها واثقا من صحة ما قال ما كان يعلن عن نتائج في انتخابات بعض الرؤساء العرب، لكن المهم هو أنه ظهر تقريبا ملغيا أي دور لأمته؛ بل ولأعدائها من الصهاينة الذين يعلم المتدبر لشؤون العالم نفوذهم القوي؛ وبخاصة في أمريكا.. الدولة الأقوى في العالم الآن.

ولرسوخ ذلك الاعتقاد عند قادة أمتنا، أو عند أكثرهم، لم يعد غريبا على بعض من يسمون بالنخبة المثقفة في شعوبها أن يهتموا اهتماما كبيرا بالانتخابات الأمريكية؛ مؤملين - أو معتقدين- بأن الرئيس الذي يأتي نتيجة لها ستكون مواقفه إيجابية بالنسبة لقضايا أمتنا؛ وبخاصة قضية فلسطين. فهل لذلك الأمل، أو الاعتقاد، براهين على صحته في ضوء الوقائع التاريخية؟ إن الذي لديه مثل ذلك الأمل، أو الاعتقاد، كان ينطبق عليه ما قاله المجنون؛ وهو يتحدث عن ليلى بقوله:

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض

على الماء خانته فروج الأصابع

من المعروف المشاهد أن حكم أمريكا يتعاقب عليه الخربان الجمهوري والديمقراطي. هل اختلفت حتى الآن مواقف زعماء أي من الحزبين اختلافا جوهريا من قضية أمتنا.. قضية فلسطين، التي هي حجر الزاوية في قضايا هذه الأمة كلها؟ في الربع الأول من القرن الماضي كان أبرز زعماء أمريكا الرئيس ولسون، الذي نادى بمبادئ ظهرها جميل وعظيم. لكن ذلك الرئيس كان أول زعيم غربي يؤيد وعد بلفور المعلن سنة 1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ومن المعلوم أن ذلك التأييد يتنافى مع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها؛ وهو أحد المبادئ العظيمة التي نادى بها الرئيس ولسون نفسه، وكان أعظم زعماء أمريكا -خلال الحرب العالمية الثانية- الرئيس روزفلت. ولقد ناشده الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أن يعمل ما في وسعه لإزاحة الظلم الذي كان يرتكب ضد الشعب الفلسطيني على أيدي الصهاينة، وما يخططون له من إقامة دولة لهم على أرض فلسطين عدوانا على أهلها بخاصة وأمتهم بعامة، فكان الجواب على تلك المناشدة الإحالة إلى بيان وزارة الخارجية الأمريكية الذي ورد فيه:

(كل رئيس؛ ابتداء من الرئيس ولسون، قد عبر عن اهتمامه الخاص في مناسبة واحدة، أو عدة مناسبات، بفكرة وطن قومي لليهود (في فلسطين)، وأبدى سروره بالتقدم الذي وصل إليه إنشاء هذا الوطن.. وإنه في ضوء هذا الاهتمام راقبت الحكومة الأمريكية وشعبها بأشد العطف تدرج هذا الوطن في فلسطين؛ وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دورا رئيسيا).

ولو قال ذلك الرئيس: إن ذلك الاهتمام كان من قبل مجيء ولسون إلى الحكم لكان صادقا. فمن الثابت أن الرئيس جون آدمز قد نادى بإقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين عام 1818م؛ أي قبل إعلان وعد بلفور بمئة عام. وللرئيس كيندي مكانة كبيرة بين رؤساء أمريكا، كما أن له منزلة رفيعة بين زعماء العالم جميعهم. وما زال يوجد بين كتاب النخبة من أتنا من يمجدون سياسته. لكنه الرئيس الذي تعهد بحماية إسرائيل؛ أي حماية دولة مغتصبة لفلسطين دون تحديد حدود لها حتى الآن. ومعنى ذلك أنه كان مستعداً للوقوف مع تلك الدولة المغتصبة مهما كانت مساحة ما اغتصبته من أراضي ذلك القطر العربي العزيز. أما الرئيس بوش الأب، الذي كاد بعض الذين يعدون من السياسيين العرب لا تمل أفواههم وأقلامهم من الثناء عليه، فهو الذي قدمته إدارته للكيان الصهيوني خدمات جلى أوجزها وزير خارجيته، بيكر، في مذكراته بما يأتي:

1- تمكين دبلوماسية أمريكا وخزانتها إسرائيل من استيعاب مئات الآلاف من اليهود الروس والإثيوبيين.

2- مساعدة إسرائيل على إقامة علاقات دبلوماسية مع 44 دولة بما في ذلك الاتحاد السوفيتي.

3- نجاح أمريكا في إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1975م بدمغ الصهيونية بالعنصرية.

4- القضاء على التهديد الإستراتيجي، الذي كانت تمثله، العراق العدو الألد لإسرائيل.

5- جمع جيران إسرائيل معها على مائدة السلام لإجراء مباحثات مباشرة؛ وهو هدف طالما سعت إلى تحقيقه على مدى أربعين عاماً.

وما كان الرئيس كلينتون إلا ذلك الرئيس الذي بلغ نفوذ الصهاينة في عهده درجة كبيرة مما يوضحها أن من أقطاب العاملين معه اليهوديين الصهيونيين روس وأنديك، وأنه في إحدى المرات التي تعثرت فيها المحادثات بين فريق عرفات والفريق الصهيوني كون لجنة لتقريب وجهتي نظريهما، وكانت تلك اللجنة مكونة من تسعة أشخاص كلهم يهود.

أما الرئيس بوش الابن -وبين أركان إدارته أناس أشرهم وأكثرهم عداء لأمتنا نائبه تشيني- فاندفاعه الذي لا يضاهى في دعم الكيان الصهيوني لا يخفى. وهو اندفاع ناتج عن مودة روحية عميقة أشرت إليه في مقالة نشرتها، عام 1422هـ- 2001م، بالقول:

(أفلا يحس المرء عمق المعاناة التي يبديها بوش الابن -فرَّج الله كربته الغرامية- عندما قال ملتمساً عطف حبيبته الدولة الصهيونية:

ملكت القلب حتى بات فكري

يطوف فلا يرى أحداً سواكِ

بكل تراث أمريكا أضحي

إذا ما نلت في هذا رضاكِ

أجل. إنها المعاناة البوشية النابعة من حب (بالفطرة) لدولة الصهاينة - كما وصفه سفيره الصهيوني، أنديك، لدى هذه الدولة. وهي معاناة لا تساويها، أو تقرب منها، إلا معاناة نائب الرئيس المحترم جدا، من عشقه الذي يكنه للحبيبة ذاتها. لكن هذا النائب - فيما يبدو- أدرك أن لغة تعبيره بالعربية الفصحى لن ترقى إلى مستوى منافسة رئيسه. ففضل أن يعبر بالعامية قائلاً:

حبي لكم يا بني صهيون

سيطر على كل وجداني

وقلبٍ هوى في هوى شارون

غناه يا دان لا دانِ

قال عفريت من الإنس:

لكن من أين لتشيني معرفة الهجيني والصوت؟

فأجاب الفقير إلى الله: ألم ترَ أن سوق بيع القصائد رائجة منذ سنوات؟

وإذا كان هناك قادة يبيعون ضمائرهم وقضايا أمتهم فهل يلام محتاجون باعوا كلاماً يطير به الهواء؟

كانت تلك المقالة قبل جريمة احتلال العراق العدوانية. ماذا ارتكب من الجرائم بحق أمتنا بعد ذلك الاحتلال، وما يتوقع أن يحدث في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة سوف يكونان موضوع الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد