شرفت قبل نحو عشرين عاماً بالمشاركة في مؤتمر لرؤساء البلديات والمجمعات القروية نظمته ودعت إليه وزارة الشؤون البلدية والقروية في عهد وزيرها الأسبق، معالي الشيخ إبراهيم العنقري، رحمه الله، وقد عقد المؤتمر بمدينة أبها خلال شهر شوال من عام 1408هـ، وشاركت فيه بورقة عمل حول معاناة رئيس البلدية في التعامل مع بيئة عمله إدارياً وأخلاقياً، وسبل تحصينه من شبهات تمس الذمة داخل نطاق العمل وخارجه.
***
* من جهة أخرى، كان من بين محاور ذلك المؤتمر المهم بند يتعلق بكيفية المحافظة على المرافق العامة التي تنشئها الدولة لراحة ورفاهية المواطن، كالمساجد والحدائق العامة والمنتزهات والساحات والطرقات ونحو ذلك، وقد ركز الحوار على ضرورة تنشيط وعي المواطن بأهمية هذه المرافق وما أنفق في سبيلها، والدعوة إلى المحافظة عليها، بحسن استخدامها وتجنب العبث بها.
***
* وأذكر أنني طرحت مداخلة حول هذا البند ذات شقين قلت فيهما:
أولاً: إنه لا جدل ولا خصام حول أهمية وعي المواطن كقوة ردع ذاتية تصدّه عن العبث بمرفق عام أقامته الدولة له ومن أجله، وموقف كهذا ينتمي قطعاً إلى بديهية إنسانية وخلقية لا تقبل القسمة على اثنين!
***
ثانياً: إنه بالرغم مما قيل ويقال تأييداً لقضية تنمية الوعي، إلا أنني أشك في جدوى الاقتصار على (استجداء) أخلاقية المواطن، وولائه وانتمائه فحسب طمعاً في إيقاظ حس الوعي لديه، وأمر كهذا لا يفي بالغرض ما لم يقترن بشيء من (الردع المادي) في كثير من الأحوال ممثلاً في (تغريم المخالف) متى ثبتت مخالفته باقتراف العبث بأي مرفق عام، وأسوق لذلك مثلاً بظاهرة (احترام إشارة المرور) الذي أصبح نمطاً سلوكياً يمارسه الكثيرون بتلقائية الطبع وعفويته، رغم عبث قلة من العابثين، لكنه ما كان ليتم لو لم يرتبط بإجراءات رادعة، كالتوقيف المؤقت والجزاء المالي وتعليق رخصة القيادة أو سحبها، وأذكر أنني ختمت مداخلتي هذه بالقول إن أكثر شعوب الأرض مدنية تأخذ بالأسلوبين معاً، وإن كان (الردع المادي) يغلب على ما سواه في معظم الأحوال.
***
* وقد علق معالي أمين مدينة الرياض في ذلك الوقت الشيخ عبدالله النعيم، على مداخلتي قائلاً إنه لا يختلف معي فيما ذهبت إليه سوى الرغبة في التأكيد على أهمية تنمية فضيلة (الردع الذاتي) لدى المواطن نفسه ممثلاً في إحساسه بقيمة ما تنشئه الدولة من أجله، وأنه يتعذر على أمانات المدن مراقبة سلوك كل مواطن، وضبط العابث حيثما كان!
***
* لم أجد يومئذ ما أجادل به موقف معالي الأمين النعيم فيما ذهب إليه سوى القول إن ما أشار إليه حق، ولكن وجود شيء من (الردع) من جزاء مادي ونحوه، والإصرار على تطبيقه دون استرخاء ولا استثناء، سيدفع المرء إلى التفكير أكثر من مرة قبل الشروع في اقتراف مخالفة من نوع ما، وبالتالي فإن الردع هنا يسهم في سد الثغرة التي يحدثها (غياب الوعي) في كثير من الحالات!
***
وبعد..
* الآن.. وبعد مرور عشرين عاماً على هذا الجدل، أتساءل:
* هل تغير شيء في هذا الصوب؟ هل بات المواطن اليوم، ومثله المقيم، أكثر وعياً واستيعاباً للوازع الديني والخلقي والوطني السوي وأكثر إقبالاً على العمل بأوامره وتجنب نواهيه في تعامله مع المرافق العامة؟!
***
* لست أدري، لكن غياب الردع المادي أو تهميش تطبيقه استجابة لنوازع الاسترخاء أو دوافع الاستثناء أو ضعف الرقابة الميدانية.. كل ذلك يمس أمن المرافق واستمرار عطائها خدمة للمواطن والوطن، أما تكثيف دعوات الوعي طمعاً في تأسيس (الرادع الذاتي).. فأمر، رغم ضرورته، لا يجدي كثيراً.. إلا من رحم ربي من ذوي السلوك السوي والخلق التربوي السليم!