Al Jazirah NewsPaper Monday  17/11/2008 G Issue 13199
الأثنين 19 ذو القعدة 1429   العدد  13199
وجيف في قلب الصحافة الورقية
عبد الباسط شاطرابي

عندما كتموا أنفاسهم، ووضعوا أيديهم على قلوبهم.. كان قلقهم مبررا. فالصحفيون في الجرائد الورقية لم يكونوا بحاجة لصدمة جديدة، لأن كابوس الصحافة الانترنتية يؤرق معظمهم منذ فترة، لكن الجديد الذي زاد من جحوظ الأعين نبأ توقف الصحيفة الأمريكية الشهيرة (كريستيان ...

ساينس مونيتور)، وقرار إدارتها التحول إلى صحيفة الكترونية بعد مائة عام من ازدهارها ورقيا!

دراما الصراع الخفي الصامت بين صحافة الورق وصحافة النت جزء من الظاهرة الأشمل، وهي صراع القديم والحديث. فليس هناك منشط إنساني لم يعش صراعا مثل هذا.. تلك سنة كونية، والدنيا تسير إلى الأمام. لكن، وعلى الرغم من أن الجديد المفيد ينتصر دائما، إلا أن الانتصار لا يكون كالشيك المكتوب على بياض! فهناك دائما أثمان يدفعها المنتصر مقابلا لانتصاره، وهناك أيضا أثمان أفدح يدفعها المنهزم نظير خسران السجال.

الإعلام، تحديدا، كانت له تجربته الخاصة جدا في صراع القديم والحديث. ففي عقود قليلة شهدت البشرية صراع الصحافة المكتوبة والإذاعة، ثم صراع الإذاعة والتلفاز، ثم صراع التلفاز والصحافة مع الإنترنت، وكلها صراعات نشأت وحمي وطيسها خلال فترات قصيرة.

تلك الصراعات كان فيها دائما منتصر ومنهزم، لكن الانتصار لم يكن مطلقا، والهزائم لم تكن كذلك مطلقة. فالإذاعات بمرونتها وقدرتها على كسب الوقت عاشت نشوة الانتصار حينا من الدهر على الصحف، لكنها أفاقت على حقيقتين، الأولى أن فئات معتبرة من البشر لم يكن التفاتهم للإذاعة خصما على اهتمامهم بالصحف، والثانية أن كوادر الإذاعات الخبرية والتحريرية خارجون من عباءة الصحافة المكتوبة، وهو ما خلق صلة قرابة ومصاهرة بين الوسيلتين، وتحول الانتصار الإذاعي المؤقت إلى ما يشبه التسوية واقتسام الكعكة، خصوصا وأن الصحف عادت لتكتسب مساحات واسعة من الأرضيات التي فقدتها عقب الهجوم المباغت للراديو!

التلفزيون بسحره وقدراته وإبهاره كان له أوانه أيضا، فما أن أطلت الشاشة الفضية على الناس حتى شعر أهل الإذاعة المسموعة وأهل الصحافة المكتوبة أن زمانهم قد ولى، وبالفعل انفض الكثير من الناس عنهم حينا من الدهر، لكن الأمور عادت إلى بعض توازنها، وأثبتت ميكانيزم الاستقطاب الإعلامي أن لكل نصيبه، حتى لو كان التلفاز هو المنتصر ظاهريا في معركة الجذب بما يملكه من قدرات وإمكانيات!

وكالصاعقة.. نزل على الدنيا الإنترنت!

لم يكد أهل الإعلام يلتقطون أنفاسهم، حتى خرج المارد من قمقمه، ليقول إن الصراع ما زال قائما، وأن كوابيس الركض اللاهث ما زالت تفرض حساباتها المرعبة على القلوب والعقول!

جاء الإنترنت بفضاءاته وعوالمه ومحيطاته التي لا تعرف الضفاف! وانفتح الكون على (زمان الانترنت)، وحدثت الثورة الاتصالية المهولة والجديدة على الساحة، ليبيت الكل وهو يعيد حساباته ويرتب بيته من جديد!

إعلاميا.. أفرزت الشبكة العنكبوتية، ضمن ما أفرزت، ما عرف بالصحافة الالكترونية. واستيقظ الصحفيون على صحافة لا يمكن نكران وجودها، ولا يمكن المزايدة على الاتساع المطرد لتأثيرها.

المشكلة لم تكن في انبعاث غول جديد يصرف الناس عن بقية الوسائط الإعلامية، لكنها كانت في مفارقة التكلفة المادية التي تتطلبها صحافة الورق واستوديوهات التلفزة والإذاعة من جهة، وهي تكلفة مهولة، والتكلفة التي تتطلبها الصحيفة الالكترونية، وهي زهيدة جدا مقارنة برصيفاتها الإعلاميات!

الواقع الماثل يقول إن الحالة ما زالت (مستقرة)، فالصحف ما زالت تصدر رغم متطلباتها المادية المهلكة، ووسائل الإعلام ما زالت قابضة على اهتمامات الناس دون اندحار يذكر لجيوش متابعيها، والصحافة الالكترونية تجتذب فئات من الناس دون التأثير السلبي على الصحف المطبوعة!

تلك هي النظرة التشخيصية الأولية، أي أن الأمور تسير، كعادتها، في اتجاه التسوية واقتسام الكعكة. لكن ماذا يقول الافق المنظور لصحافة الورق؟

الإجابة تقول إن معيار البقاء هو التكلفة الأقل، فوسائل الإعلام التي تصل بسهولة أكثر وبتكلفة مادية أقل وبرقابة منعدمة لا تصادر ولا تجر الخسائر.. هذه الوسائل هي الأقدر على البقاء في الصراع المرير القادم. ولأن هذه الإجابة القاسية هي التي ستفرض منطقها، يتنادى الناشرون الورقيون في مختلف أنحاء العالم للاجتماع وشق الدروب والمسالك الجديدة التي تحفظ الحياة للصحف، ومعظم هذه الدروب تسعى باستماتة لتمر من خلال تقليل تكلفة الصحيفة الورقية، وتنمية مصادرها المادية التي تعينها على البقاء.

ما يبدو أن الناشرين لا تخلو جعبتهم من الحلول وبعضها مبتكرة وثورية، لكن غمامات الأفق تعتم الرؤية أمام الكثيرين فتجعلهم يسارعون للقفز قبل غرق المركب.

لهذا السبب سارع ناشرو (كريستيان ساينس مونيتور) العريقة لاستباق الأحداث، وقرروا التوقف عن النسخة الورقية للصحيفة ابتداء من أبريل القادم، وهو قرار جاء في إطار متفائل بصحيفة اليكترونية أقد ر على خدمة قرائها، لكنه كان مضمدا بجوهر دامع ونازف، وهو أن الصحافة الالكترونية بدأت تفرض حساباتها بقوة على الواقع الصحفي العالمي، وأنها بدأت تسجل انتصاراتها، وتأخذ نصيبا مقلقا من الكعكة التي كثر ناهشوها!

الخرطوم


shatarabi@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد